ج م لا

 

مدونة في وداع الله يا امي/يا الله /جاري جاري / مدونات لا شرك لا شرك /قانون الحق الالهي/نوتة الصلاة //في وداع الله يااماي/تعلم التفوق بالثانوية /السيرة النبوية /الفهرست/اللهم ارحم ابي وامي /المضبطة /تخريجات أحاديث الطلاق متنا وسندا/حدود التعاملات العقائدية بين المسلمين/قانون الحق الالهي اا./قانون الحق الالهي/قانون العدل الالهي/قانون ثبات سنة الله في الخلق/كتاب الفتن علامات الساعة ويوم القيامة /مدونات لا شين/مسائل صحيح مسلم وشروح النووي الخاطئة عليها /وصف الحور العين /مامي 27/المدونة التعليمية المساعدة/مدونة الاميرة اسماء صلاح التعليمية/أمي الحنون الغالية/الكشكول الأبيض2ثانوي/الأم)منهج الصف الثاني الثانوي علمي رياضة وعلوم /ثانوي {الحاسب الآلي - والمواطنة} /ثاني ثانوي لغة عربية /أمي الحنون الغالية /احياء ثاني ثانوي ترم أول /الأمراض الخطرة والوقاية منها /البداية والنهاية للحافظ بن كثبر /التاريخ 2ث /التجويد //الترم الثاني ثاني ثانوي كل مواد 2ث //الثالث الثانوي القسم الأدبي والعلمي //الجغرافيا والجيولوجيا ثانية ثانوي //الخلاصة الحثيثة في الفيزياء //الديوان الشامل لاحكام الطلاق //السيرة النبوية //الطلاق المختلف عليه//الفيزياء الثالث الثانوي روابط //اللغة الفرنسية 2ثانوي //الملخص المفيد ثاني ثانوي ترم أول//المنهج في الطلاق //النخبة في مقررات2ث,ترم أول عام2017-2018 //النخبة في شرعة الطلاق //الهندسة بأفرعها //بيت المعرفة العامة //ترم ثاني ثاني ثانوي علمي ورياضة وادبي.. //تفوق وانطلق للعلا //ثالثة ثانوي مدونة//ثاني ثانوي ترم اول وثاني الماني //روابط المواقع التعليمية //روابط مناهج تعليمية ثاني ثانوي كل الأقسام//رياضيات بحتة وتطبيقية تاني ثانوي ترم ثاني //عبد الواحد ترم أول2ثانوي //عبدالواحد ثاني ثانوي ترم1و2.//علم المناعة //فلسفة.منطق.علم نفس.اجتماع 2ث ترم اول//فيزياء ثاني ثانوي ترم أول //فيزياء ثاني ثانوي ترم ثاني //كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري //كتاب الزكاة //كتب ثاني ثانوي ترم1و2 //كشكول //كل الرياضيات تفاضل وتكامل وحساب مثلثات2ثانوي ترم أول وأحيانا ثاني //كيمياء ثاني ثانوي ترم أول //لغة انجليزية2ث.ترم أول //مدونة الأميرة الصغيرة//أسماء صلاح التعليمية 3ث //مدونة الإختصارات //مدونة الجامعة المانعة لأحكام الطلاق حسب سورة/الطلاق7/5هـ//مدونة اللغة الإيطالية //مدونة كل روابط المنعطف التعليمي للمرحلة الثانوية //مراجعات ليلة الامتحان كل مقررات 2ث الترم الثاني//مكتبة روابط ثاني ثانوي ترم اول //منعطف التفوق التعليمي لكل مراحل الثانوي العام //ميكانيكا واستاتيكا 2ث ترم اول //نهاية البداية

 

ممـــــ

برامج كتابة سيجما/الخلود ورؤية الناس /من مات لا يشرك بالله شيئا// كيف يقول الله تعالي إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ثم هو جل وعلا يقول../كيف يري الناس قول الله تعالي (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَ...///فإذا تبين لنا أن الشرك مقدارا هو مادونه العدم.../الشِّيئةُ تعريف معني شيئ في كتاب الله ومعجم لسان/عرض منسق لحديث /صاحب البطاقة يوم القيامة/التعقيب علي مقال إزالة الاشكال حول معني الخلود /التعقيب علي مقال.إزالة الإشكال حول معنى (الخلود) /المحكم والمتشابه في حديث /صاحب البطاقة وأخطاء أصحاب.../النصوص الظنيَّه التي اعتمد عليها النووي في صنع شرع موازيا/ من مات لا يشرك بالله شيئا /كيف يري الناس قول الله تعالي (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَ.../حديث أبي ذر من مات لا يشرك بالله شيئا../*الخلود خلودان مقولة ومصطلح مؤلف ليس من الاسلام في.../النار .. في القرآن الكريم/✿معني الخلود مجازا بنسبة قرينته وأبدا بنسبة أبدية .../✿>✿ لا خلود في لآخرة إلا بمدلول واحد هو الأبد ومن.../المأوي هو لفط دال عل الخلود في الآخرة إما إلي الجن.../مدونة قانون الحق الالهي*سنة الله الثابتة في نصر عباده.../شروط الحكم بانتهاء عقد الاسلام /تحقيق حديث مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَح.../تخريج حديث مسلم الدليل علي أن قاتل نفسه لا يكفر وا.../تحقيق حديث مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَح.../تحميل القران كلة برابط واحد الشيخ عبد الباسط/كيف يخالط الشيطان أو النفس أو الهوي إيمان المؤمني./ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَ.../الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بظل/كتاب الجامعة المانعة /نظام الطلاق في الإسلام الطلاق/حديث البطاقة (يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق /الادلة المستيقنة علي بطلان تأويلات نصوص الزجر وقطع.../شروط الشفاعة كما جاءت بكتاب الله تعالي /جديث ابي ذر من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ما هي الشفاعة ولمن تستحقفي مسار التعقيب علي النووي أسأل كل من ظاهروه٢.الإعراض عن يقين ونور المحكم من الحجج واللجوء الفهرست مدونة قانون الحق الالهيسمات النووي التي اتصف بها في معترك قلبه لنصوص الإيإن الميت علي المعصية عياذا بالله مات غير مستجيبا لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل/ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالةتابع قانون الحق الجزء [۳] إلي بيان ما هو الحقالشواهد والطرق التي تبين صحة قول ابن الصلاح الرواية الناقصة من حديث مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَد/برامج كتابة سيجما/الخلود ورؤية الناس /من مات لا يشرك بالله شيئا// كيف يقول الله تعالي إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ثم هو جل وعلا يقول../كيف يري الناس قول الله تعالي (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَ...///فإذا تبين لنا أن الشرك مقدارا هو مادونه العدم.../الشِّيئةُ تعريف معني شيئ في كتاب الله ومعجم لسان/عرض منسق لحديث /صاحب البطاقة يوم القيامة/التعقيب علي مقال إزالة الاشكال حول معني الخلود /التعقيب علي مقال.إزالة الإشكال حول معنى (الخلود) /المحكم والمتشابه في حديث /صاحب البطاقة وأخطاء أصحاب.../النصوص الظنيَّه التي اعتمد عليها النووي في صنع شرع موازيا/ من مات لا يشرك بالله شيئا /كيف يري الناس قول الله تعالي (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَ.../حديث أبي ذر من مات لا يشرك بالله شيئا../*الخلود خلودان مقولة ومصطلح مؤلف ليس من الاسلام في.../النار .. في القرآن الكريم/✿معني الخلود مجازا بنسبة قرينته وأبدا بنسبة أبدية .../✿>✿ لا خلود في لآخرة إلا بمدلول واحد هو الأبد ومن.../المأوي هو لفط دال عل الخلود في الآخرة إما إلي الجن.../مدونة قانون الحق الالهي*سنة الله الثابتة في نصر عباده.../شروط الحكم بانتهاء عقد الاسلام /تحقيق حديث مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَح.../تخريج حديث مسلم الدليل علي أن قاتل نفسه لا يكفر وا.../تحقيق حديث مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَح.../تحميل القران كلة برابط واحد الشيخ عبد الباسط/كيف يخالط الشيطان أو النفس أو الهوي إيمان المؤمني./ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَ.../الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بظل/كتاب الجامعة المانعة /نظام الطلاق في الإسلام الطلاق/حديث البطاقة (يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق /الادلة المستيقنة علي بطلان تأويلات نصوص الزجر وقطع.../شروط الشفاعة كما جاءت بكتاب الله تعالي /جديث ابي ذر من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ما هي الشفاعة ولمن تستحقفي مسار التعقيب علي النووي أسأل كل من ظاهروه٢.الإعراض عن يقين ونور المحكم من الحجج واللجوء الفهرست مدونة قانون الحق الالهيسمات النووي التي اتصف بها في معترك قلبه لنصوص الإيإن الميت علي المعصية عياذا بالله مات غير مستجيبا لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل/ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالةتابع قانون الحق الجزء [۳] إلي بيان ما هو الحقالشواهد والطرق التي تبين صحة قول ابن الصلاح الرواية الناقصة من حديث مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَد// الرواية الناقصة من حديث مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَ... أقوال النووي في المتأولات*النووي وقواعده الفجة في التأويل في كتابه: الم.نصوص الشفاعة كيف فهمها الناس وكيف تربصوا بها وحادولتوبة هي كل الاسلامفاستبدلوا اشارة الشرع الي الكلام عن ذات المؤمن بإ الشئ هو أقل مخلوق في الوجود (مثقال الذرة التوبة فرض وتكليف لا يقوم الإسلام إلا بها*التوبة هي كل الإسلامهل من قال لا اله الا الله الشواهد علي صحة من قاللماذا قالوا أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فهرست مدونة قانون الحق الالهيمن قانون الحق الالهي عرض آخر لمصطلح كفر دون كفر فقد وضعوه وغالطوا فيه.الفرق بين التعامل بين المسلمين وبعضهم وبين الله وا../ .........................

.........................

دليل المدونات العلمية

مدونة في وداع الله يا امي /يا الله /جاري جاري /مدونات لا شرك لا شرك / قانون الحق الالهي /نوتة الصلاة /في وداع الله يااماي /تعلم التفوق بالثانوية /السيرة النبوية /الفهرست /اللهم ارحم ابي وامي /المضبطة /تخريجات أحاديث الطلاق متنا وسندا /حدود التعاملات العقائدية بين المسلمين /قانون الحق الالهي اا. /قانون الحق الالهي /قانون العدل الالهي /قانون ثبات سنة الله في الخلق /كتاب الفتن علامات الساعة ويوم القيامة /مدونات لا شين /مسائل صحيح مسلم وشروح النووي الخاطئة عليها /وصف الحور العين /مامي 27 . المدونة التعليمية المساعدة /مدونة الاميرة اسماء صلاح التعليمية /أمي الحنون الغالية /الكشكول الأبيض2ثانوي /(الأم)منهج الصف الثاني الثانوي علمي رياضة وعلوم / 2ثانوي {الحاسب الآلي - والمواطنة / 2ثاني ثانوي لغة عربية /أمي الحنون الغالية /احياء ثاني ثانوي ترم أول /الأمراض الخطرة والوقاية منها /البداية والنهاية للحافظ بن كثبر /التاريخ 2ث /التجويد /الترم الثاني ثاني ثانوي كل مواد 2ث /الثالث الثانوي القسم الأدبي والعلمي /الجغرافيا والجيولوجيا ثانية ثانوي /الخلاصة الحثيثة في الفيزياء /الديوان الشامل لاحكام الطلاق /السيرة النبوية /الطلاق المختلف عليه /الفيزياء الثالث الثانوي روابط /اللغة الفرنسية 2ثانوي /الملخص المفيد ثاني ثانوي ترم أول /المنهج في الطلاق /النخبة في مقررات2ث,ترم أول عام2017-2018 /النخبة في شرعة الطلاق /الهندسة بأفرعها /بيت المعرفة العامة /ترم ثاني ثاني ثانوي علمي ورياضة وادبي.. /تفوق وانطلق للعلا /ثالثة ثانوي مدونة /ثاني ثانوي ترم اول وثاني الماني /روابط المواقع التعليمية /روابط مناهج تعليمية ثاني ثانوي كل الأقسام /رياضيات بحتة وتطبيقية تاني ثانوي ترم ثاني /عبد الواحد ترم أول2ثانوي /عبدالواحد ثاني ثانوي ترم1و2. /علم المناعة /فلسفة.منطق.علم نفس.اجتماع 2ث ترم اول /فيزياء ثاني ثانوي ترم أول /فيزياء ثاني ثانوي ترم ثاني /كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري /كتاب الزكاة /كتب ثاني ثانوي ترم1و2 /كشكول /كل الرياضيات تفاضل وتكامل وحساب مثلثات2ثانوي ترم أول وأحيانا ثاني /كيمياء ثاني ثانوي ترم أول /لغة انجليزية2ث.ترم أول /مدونة الأميرة الصغيرة أسماء صلاح التعليمية 3ث /مدونة الإختصارات /مدونة الجامعة المانعة لأحكام الطلاق حسب سورة الطلاق7/5هـ /مدونة اللغة الإيطالية /مدونة كل روابط المنعطف التعليمي للمرحلة الثانوية /مراجعات ليلة الامتحان كل مقررات 2ث الترم الثاني /مكتبة روابط ثاني ثانوي ترم اول /منعطف التفوق التعليمي لكل مراحل الثانوي العام /ميكانيكا واستاتيكا 2ث ترم اول /نهاية البداية

الخميس، 22 أكتوبر 2020

قصص الانبياء لان كثير ج1..................8..ذكر ذرية إبراهيم عليه الصلاة والتسليم وذكر اسماعيل وذكر يوسف عليهم جميا الصلاة والسلام.

باب ذكر ذرية إبراهيم عليه الصلاة والتسليم

قد قدمنا قصته مع قومه، وما كان من أمرهم وما آل إليه أمره عليه الصلاة والسلام والتحية والإكرام.

وذكرنا ما وقع في زمانه من قصة قوم لوط، واتبعنا ذلك بقصة مدين قوم شعيب عليه السلام، لأنها قرينتها في كتاب الله عز وجل، في مواضع متعددة، فذكر تعالى بعد قصة قوم لوط قصة مدين، وهم أصحاب الأيكة على الصحيح كما قدمنا، فذكرناها تبعا لها إقتداء بالقرآن العظيم.

ثم نشرع الآن في الكلام على تفصيل ذرية إبراهيم عليه السلام لأن الله جعل في ذريته النبوة والكتاب، فكل نبي أرسل بعده فمن ولده.
ذكر إسماعيل عليه السلام

وقد كان للخليل بنون كما ذكرنا، ولكن أشهرهم الأخوان النبيان العظيمان الرسولان أسنهما وأجلهما، الذي هو الذبيح على الصحيح إسماعيل بكر إبراهيم الخليل من هاجر القبطية المصرية عليها السلام، من العظيم الخليل.

ومن قال: إن الذبيح هو إسحاق فأنما تلقاه من نقلة بني إسرائيل الذين بدلوا وحرفوا وأولوا التوراة والإنجيل، وخالفوا ما بأيديهم في هذا من التنزيل. فإن إبراهيم أمر بذبح ولده البكر. وفي رواية الوحيد.

وأيا ما كان فهو إسماعيل بنص الدليل، ففي نص كتابهم إن إسماعيل ولد، ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة. وإنما ولد إسحاق بعد مضي مائة سنة من عمر الخليل، فإسماعيل هو البكر لا محالة، وهو الوحيد صورة ومعنى على كل حالة.

أما في الصورة فلأنه كان ولده أزيد من ثلاثة عشر سنة، وأم أنه وحيد في المعنى فإنه هو الذي هاجر به أبوه ومعه أمه هاجر، وكان صغيرا رضيعا فيما قيل، فوضعهما في وهاد جبال فاران، وهي الجبال التي حول مكة، نعم المقيل، وتركهما هنالك ليس معهما من الزاد والماء إلا القليل، وذلك ثقة بالله وتوكلا عليه، فحاطهما الله تعالى بعنايته وكفايته، فنعم الحسيب والكافي والوكيل والكفيل.

فهذا هو الولد الوحيد في الصورة والمعنى، ولكن أين من يتفطن لهذا السر، وأين من يحل بهذا المحل، والمعنى لا يدركه ويحيط بعلمه إلا كل نبيه نبيل.

وقد أثنى الله تعالى عليه فوصفه بالحلم والصبر وصدق الوعد والمحافظة على الصلاة والأمر بها لأهله، ليقيهم العذاب مع ما كان يدعو إليه من عبادة رب الأرباب. قال الله تعالى: {فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين} فطاوع أباه على ما إليه دعاه، ووعده بأن سيصبر فوفى بذلك وصبر على ذلك.

وقال تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا}. وقال تعالى: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار، إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار، وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} وقال تعالى: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين، وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين} وقال تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} الآية.

وقال تعالى: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} الآية. ونظيرتها من السورة الأخرى. وقال تعالى: {أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله}. الآية.

فذكر الله عنه كل صفة جميلة وجعله نبيه ورسوله، وبرأه من كل ما نسب إليه الجاهلون. وأمر بأن يؤمن بما أنزل عليه عباده المؤمنون.

وذكر علماء النسب وأيام الناس: أنه أول من ركب الخيل وكانت قبل ذلك وحوشا فأنسها وركبها. وقد قال سعيد بن يحيى الأموي في مغازيه حدثنا شيخ من قريش، حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ﷺ قال: "اتخذوا الخيل واعتقبوها فإنها ميراث أبيكم إسماعيل".

وكانت هذه العراب وحوشا فدعا لها بدعوته التي كان أعطي فأجابته. وإنه أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة، وكان قد تعلمها من العرب العاربة الذين نزلوا عندهم بمكة من جرهم، والعماليق وأهل اليمن من الأمم المتقدمين من العرب قبل الخليل.

قال الأموي: حدثني علي بن المغيرة، حدثنا أبو عبيدة، مسمع ابن مالك عن محمد بن علي بن الحسين، عن آبائه عن النبي ﷺ أنه قال: "أول من فتق لسانه بالعربية البينة إسماعيل وهو ابن أربع عشرة سنة"، فقال له يونس: صدقت يا أبا سيار، هكذا أبو جرى حدثني.

وقد قدمنا أنه تزوج لما شب امرأة من العماليق، وأن أباه أمره بفراقها ففارقها. قال الأموي: هي عمارة بنت سعد بن أسامة بن أكيل العماليق. ثم نكح غيرها فأمره أن يستمر بها فاستمر بها، وهي السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي وقيل هذه ثالثة فولدت له اثني عشر ولدا ذكرا. وقد سماهم محمد بن إسحاق رحمه الله، وهم نابت، وقيذر وازبل، وميشى، ومسمع، وماش، ودوصا، وآرر، ويطور، ونبش، وطيما، وقيذما. وهكذا ذكرهم أهل الكتاب في كتابهم. وعندهم أنهم الاثنا عشر عظيما المبشر بهم المتقدم ذكرهم. وكذبوا في تأويلهم ذلك.

وكان إسماعيل عليه السلام رسولا إلى أهل تلك الناحية، وما والاها من قبائل جرهم والعماليق وأهل اليمن صلوات الله وسلامه عليه. ولما حضرته الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق وزوج ابنته نسمة من ابن أخيه العيص بن إسحاق، فولدت له الروم. ويقال لهم بنو الأصفر لصفرة كانت في العيص. وولدت له اليونان في أحد الأقوال. ومن ولد العيص الأشبان قيل منهما أيضا. وتوقف ابن جرير رحمه الله.

ودفن (نبي الله) إسماعيل نبي الله بالحجر مع أمه هاجر، وكان عمره يوم مات مائة وسبعا وثلاثين سنة. وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: شكى إسماعيل عليه السلام إلى ربه عز وجل حر مكة، فأوحى الله إليه أنى سأفتح لك بابا إلى الجنة، إلى الموضع الذي تدفن فيه يجري عليك روحها إلى يوم القيامة.

وعرب الحجاز كلهم ينتسبون إلى ولديه نابت وقيذار.
ذكر إسحاق بن إبراهيم الكريم بن الكريم عليهما الصلاة والتسليم

قد قدمنا أنه ولد ولأبيه مائة سنة، بعد أخيه إسماعيل بأربع عشر سنة، وكان عمر أمه سارة حين بشرت به تسعين سنة.

قال الله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين، وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين}.

وقد ذكر الله تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز.

وقدمنا في حديث أبي هريرة عن رسول الله ﷺ "أن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".

وذكر أهل الكتاب: أن اسحاق لما تزوج رفقا بنت بتواييل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة، وأنها كانت عاقرا فدعا الله لها فحملت، فولدت غلامين توأمين أولهما اسمه (عيصو) وهو الذي تسميه العرب العيص، وهو والد الروم. والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه "يعقوب" وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل.

قالوا: وكان إسحاق يحب عيصو أكثر من يعقوب، لأنه بكره، وكانت أمهما رفقا تحب يعقوب أكثر لأنه الأصغر.

قالوا: فلما كبر إسحاق وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص طعاما، وأمره أن يذهب فيصطاد له صيدا، ويطبخه له ليبارك عليه ويدعو له، وكان العيص صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك، فأمرت رفقا ابنها يعقوب أن يذبح جديين من خيار غنمه ويصنع منهما طعاما كما اشتهاه أبوه، ويأتي إليه به قبل أخيه، ليدعو لهن فقامت فألبسته ثياب أخيه، وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين، لأن العيص كان أشعر الجسد، ويعقوب ليس كذلك، فلما جاء به وقربه إليه قال: من أنت قال: ولدك، فضمه إليه وجسه وجعل يقول: أما الصوت فصوت يعقوب، وأما الجس والثياب فالعيص، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدرا، وكلمته عليهم وعلى الشعوب بعده، وأن يكثر رزقه وولده.

فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص بما أمره به والده فقربه إليه، فقال له: ما هذا يا بني؟ قال: هذا الطعام الذي اشتهيته. فقال: أما جئتني به قبل الساعة وأكلت منه ودعوت لك؟ فقال: لا والله. وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك، فوجد في نفسه عليه وجدا كثيرا. وذكروا أنه تواعده بالقتل إذا مات أبوهما، وسأل أباه فدعا له بدعوة أخرى، وأن يجعل لذريته غليظ الأرض، وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم.

فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيص أخاه يعقوب، أمرت ابنها يعقوب أن يذهب إلى أخيها "لابان" الذي بأرض حران، وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه، وأن يتزوج من بناته، وقالت لزوجها إسحاق أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له ففعل.

فخرج يعقوب عليه السلام من عندهم من آخر ذلك اليوم، فأدركه المساء في موضع، فنام فيه، وأخذ حجرا فوضعه تحت رأسه ونام، فرأى في نومه ذلك معراجا منصوبا من السماء إلى الأرض وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون، والرب تبارك وتعالى يخاطبه، ويقول له: إني سأبارك عليك، وأكثر ذريتك، وأجعل لك هذه الأرض ولعقبك من بعدك.

فلما هب من نومه فرح بما رأى، ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالما ليبنين في هذا الموضع معبدا لله عز وجل، وأن جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره.

ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهنا يتعرفه به، وسمي ذلك الموضع (بيت إيل) أي بيت الله وهو موضع بيت المقدس اليوم الذي بناه يعقوب بعد ذلك كما سيأتي.

قالوا: فما قدم يعقوب على خاله أرض حران إذا له ابنتان اسم الكبرى "ليا" واسم الصغرى "راحيل" وكانت أحسنهما وأجملهما فطلب يعقوب الصغرى من خاله، فأجابه إلى ذلك بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين، فلما مضت المدة على خاله "لابان"، صنع طعاما وجمع الناس عليه، وزف إليه ابنته الكبرى "ليا"، وكانت ضعيفة العينين قبيحة المنظر. فلما أصبح يعقوب إذا هي "ليا"، فقال لخاله: لم غدرت بي، وأنت إنما خطبت إليك راحيل؟. فقال: إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى، فإن أحببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى، وأزوجكها.

فعمل سبع سنين وأدخلها عليه مع أختها وكان ذلك سائغا في ملتهم. ثم نسخ في شريعة التوراة. وهذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ لأن فعل يعقوب عليه السلام دليل على جواز هذا وإباحته لأنه معصوم. ووهب "لابان" لكل واحدة من ابنتيه جارية فوهب لليا جارية اسمها "زلفى"، ووهب لراحيل جارية اسمها "بلهى".

وجبر الله تعالى ضعف "ليا" بأن وهب لها أولادا، فكان أول من ولدت ليعقوب روبيل، ثم شمعون، ثم لاوي، ثم يهوذا، فغارت عند ذلك "راحيل"، وكانت لا تحبل، فوهبت ليعقوب جاريتها "بلهى" فوطئها فحملت وولدت له غلاما سمته "دان"، وحملت وولدت غلاما آخر سمته "نيفتالي" فعمدت عند ذلك "ليا" فوهبت جاريتها "زلفى" من يعقوب عليه السلام فولدت له جاد وأشير، غلامين ذكرين، ثم حملت "ليا" أيضا فولدت غلاما خامسا منها، وسمته "ايساخر". ثم حملت وولدت غلاما سادسا سمته "زابلون"، ثم حملت وولدت بنتا سمتها "دينار"، فصار لها سبعة من يعقوب.

ثم دعت الله تعالى "راحيل" وسألته أن يهب لها غلاما من يعقوب فسمع الله ندائها وأجاب دعائها فحملت من نبي الله يعقوب فولدت له غلاما عظيما شريفا حسنا جميلا سمته "يوسف".

كل هذا وهم مقيمون بأرض حران وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى، فصار مدة مقامه عشرين سنة.

فطلب يعقوب من خاله لابان أن يسرحه ليمر إلى أهله، فقال له خاله: إني قد بورك لي بسببك، فسلني من مالي ما شئت؟ فقال: تعطيني كل حمل يولد من غنمك هذه السنة أبقع، وكل حمل ملمع ابيض بسواد، وكل أملح ببياض، وكل أجلح أبيض من المعز، فقال: نعم.

فعمد بنوه فابرزوا من غنم أبيهم ما كان على هذه الصفات من التيوس لئلا يولد شيء من الحملان على هذه الصفات وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبيهم.

قالوا: فعمد يعقوب عليه السلام إلى قضبان رطبة بيض من لوز ولب، فكان يقشرها بلقا، وينصبها في مساقي الغنم من المياه، لينظر الغنم إليها فتفزع وتتحرك أولادها في بطونها فتصير ألوان حملانها كذلك.

وهذا يكون من باب خوارق العادات، وينتظم في سلك المعجزات.

فصار ليعقوب عليه السلام أغنام كثيرة ودواب وعبيد وتغير له وجه خاله وبنيه وكأنهم انحصروا منه.

وأوحى الله تعالى إلى يعقوب أن يرجع إلى بلاد أبيه وقومه ووعده بأن يكون معه، فعرض ذلك على أهله فأجابوه مبادرين إلى طاعته، فتحمل بأهله وماله، وسرقت راحيل أصنام أبيها.

فلما جاوزوا وتحيزوا عن بلادهم، لحقهم لابان وقومه، فلما اجتمع لابان بيعقوب عاتبه في خروجه بغير علمه، وهلا اعلمه فيخرجهم في فرح ومزاهر وطبول، وحتى يودع بناته وأولادهن، ولم أخذوا أصنامه معهم؟

ولم يكن عند يعقوب علم من أصنامه، فأنكر أن يكون أخذوا له أصناما، فدخل بيوت بناته وإمائهن يفتش فلم يجد شيئا، وكانت راحيل قد جعلتهن في برذعة الجمل، وهي تحتها، فلم تقم واعتذرت بأنها طامث، فلم يقدر عليهن.

فعند ذلك تواثقوا على رابية هناك يقال لها "جلعاد" على أنه لا يهين بناته، ولا يتزوج عليهن، ولا يجاوز هذه الرابية إلى بلاد الآخر، لا لابان ولا يعقوب، وعملا طعاما واكل القوم معهم، وتودع كل منهما من الآخر، وتفارقوا راجعين إلى بلادهم.

فلما اقترب يعقوب من أرض ساعير، تلقته الملائكة يبشرونه بالقدوم، وبعث يعقوب البرد إلى أخيه العيصو، يترفق له ويتواضع له، فرجعت البرد، وأخبرت يعقوب بأن العيص قد ركب إليك في أربعمائة رجل.

فخشي يعقوب من ذلك ودعا الله عز وجل، وصلى له وتضرع إليه وتمسكن لديه، وناشده عهده ووعده الذي وعده به، وسأله أن يكف عنه شر أخيه العيص، وأعد لأخيه هدية عظيمة هي: مائتا شاة، وعشرون تيسا، ومائتا نعجة، وعشرون كبشا، وثلاثون لقحة، وأربعون بقرة، وعشرة من الثيران، وعشرون أتانا، وعشرة من الحمر. وأمر عبيده أن يسوقوا كلا من هذه الأصناف وحده، وليكن بين كل قطيع وقطيع مسافة، فإذا لقيهم العيص، فقال للأول: لمن أنت؟ ولمن هذه معك؟ فليقل لعبدك يعقوب، أهداها لسيدي العيص، وليقل الذي بعده كذلك، وكذلك الذي بعده وكذا الذي بعده، ويقول كل منهم. وهو جاء بعدنا.

وتأخر يعقوب بزوجتيه وأمتيه وبنيه الأحد عشر بعد الكل بليلتين، وجعل يسير فيهما ليلا، ويكمن نهارا. فلما كان وقت الفجر من الليلة الثانية تبدى له ملك من الملائكة في صورة رجل، فظنه يعقوب رجلا من الناس، فأتاه يعقوب ليصارعه ويغالبه فظهر عليه يعقوب فيما يرى، إلا أن الملك أصاب وركه فعرج يعقوب، فلما أضاء الفجر قال له الملك. ما اسمك؟ قال: يعقوب. قال: لا ينبغي أن تدعى بعد اليوم إلا إسرائيل. فقال له يعقوب: ومن أنت؟ وما اسمك؟ فذهب عنه. فعلم أنه ملك من الملائكة، وأصبح يعقوب وهو يعرج من رجله، فلذلك لا يأكل بنوا إسرائيل عرق النساء!

ورفع يعقوب عينيه فإذا أخوه عيصو قد أقبل في أربعمائة راجل، فتقدم أمام أهله، فلما رأى أخاه العيص سجد له سبع مرات، وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان، وكان مشروعا لهم، كما سجدت الملائكة لآدم تحية، وكما سجد أخوة يوسف وأبواه له كما سيأتي.

فلما رآه العيص تقدم إليه واحتضنه وقبله وبكى، ورفع العيص عينيه ونظر إلى النساء والصبيان، فقال: من أين لك هؤلاء؟ فقال هؤلاء الذين وهب لعبدك. فدنت الأمتان وبنوهما فسجدوا له، ودنت "ليا" وبنوها فسجدوا له، ودنت "راحيل" وابنها يوسف فخرا سجدا له، وعرض عليه أن يقبل هديته، وألح عليه، فقبلها.

ورجع العيص فتقدم أمامه، ولحقه يعقوب بأهله وما معه من الأنعام والمواشي والعبيد، قاصدين جبال "ساعير".

فلما مر بساحور، ابتنى له بيتا ولدوا به ظلالا، ثم مر على أورشليم، قرية شخيم، فنزل قبل القرية، واشترى مزرعة شخيم بن جمور، بمائة نعجة، فضرب هنالك فسطاطه، وابتنى ثم مذبحا، فسماه "إيل" إله إسرائيل وأمره الله ببنائه ليستعلن له فيه، وهو بيت المقدس اليوم، الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود عليهما السلام، وهو مكان الصخرة التي علمها بوضع الدهن عليها قبل ذلك كما ذكرنا أولا.

وذكر أهل الكتاب هنا قصة "دينا" بنت يعقوب بنت "ليا"، وما كان من أمرها مع شخيم بن جمور، الذي قهرها على نفسها وأدخلها منزله، ثم خطبها من أبيها واخوتها، فقال اخوتها: إلا أن تختتنوا كلكم، فنصاهركم وتصاهرونا، فإنا لا نصاهر قوما غلفا. فأجابوهم إلى ذلك، واختتنوا كلهم. فلما كان اليوم الثالث واشتد وجعهم من ألم الختان، مال عليهم بنو يعقوب فقتلوهم عن آخرهم، وقتلوا شخيما وأباه جمور لقبيح ما صنعوا إليهم، مضافا إلى كفرهم، وما كانوا يعبدونه من أصنامهم، فلهذا قتلهم بنو يعقوب وأخذوا أموالهم غنيمة.

ثم حملت "راحيل" فولدت غلاما هو "بنيامين" إلا أنها جهدت في طلقها به جهدا شديدا، وماتت عقيبه، فدفنها يعقوب في "أفراث"، وهي بيت لحم، وصنع يعقوب على قبرها حجرا، وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل إلى اليوم. وكان أولاد يعقوب الذكور اثني عشر رجلا، فمن ليا: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وايساخر، وزابلون، ومن راحيل : يوسف، وبنيامين، ومن أمة راحيل: دان، ونفتالي. ومن أمة ليا: جاد، واشير، عليهم السلام.

وجاء يعقوب إلى أبيه اسحاق فأقام عنده بقرية حبرون، التي في أرض كنعان، حيث كان يسكن إبراهيم، ثم مرض إسحاق، ومات عن مائة وثمانين سنة ، ودفنه ابناه العيص ويعقوب مع أبيه إبراهيم الخليل في المغارة التي اشتراها كما قدمنا.
ذكر ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل فمن ذلك قصة يوسف بن راحيل

وقد أنزل الله عز وجل في شأنه وما كان من أمره سورة من القرآن العظيم، ليتدبر ما فيها من الحكم والمواعظ والآداب والأمر الحكيم. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {بسم الله الرحمن الرحيم، الر تلك آيات الكتاب المبين، إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين}.

قد تكلمنا على الحروف المقطعة في أول تفسير سورة البقرة فمن أراد تحقيقه فلينظره ثم. وتكلمنا على هذه السورة مستقصى في موضعها من التفسير، ونحن نذكر ههنا نبذا مما هناك على وجه الإيجاز والنجاز.

وجملة القول في هذا المقام أنه تعالى يمدح كتابه العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم، بلسان عربي فصيح بين واضح جلى يفهمه كل عاقل ذكي زكى، فهو أشرف كتاب نزل من السماء، أنزله أشرف الملائكة على أشرف الخلق، في أشرف زمان ومكان. بأفصح لغة وأظهر بيان.

فإن كان السياق في الأخبار الماضية أو الآتية، ذكر أحسنها وأبينها، وأظهر الحق مما اختلف الناس فيه، ودمغ الباطل وزيفه ورده. وإن كان الأوامر والنواهي فأعدل الشرائع وأوضح المناهج، وأبين حكما وأعدل حكما.

فهو كما قال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا}.

يعني صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي.

ولهذا قال تعالى: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين} أي بالنسبة إلى ما أوحى إليك فيه.

كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور}.

وقال تعالى: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا، من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا، خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا}.

يعني من أعرض عن هذا القرآن واتبع غيره من الكتب، فإنه يناله هذا الوعيد، كما قال في الحديث المروي في المسند والترمذي عن أمير المؤمنين على مرفوعا وموقوفا: "من ابتغى الهدى في غيره أضله الله".

وقال الإمام أحمد: حدثنا سريج بن النعمان، حدثنا هشام أنبأنا خالد عن الشعبي، عن جابر: "أن عمر بن الخطاب أتى النبي ﷺ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي ﷺ قال: فغضب وقال: أتتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني" إسناد صحيح.

ورواه أحمد من وجه آخر عن عمرو فيه، فقال رسول الله ﷺ "والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم"، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين".

وقد أوردت طرق هذا الحديث وألفاظه في أول سورة يوسف. وفي بعضها أن رسول الله ﷺ خطب الناس فقال في خطبته: "أيها الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصارا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا، ولا يغرنكم المتهوكون" ثم أمر بتلك الصحيفة فمحيت حرفا حرفا.
ذكر ما وقع من الأمور العجيبة في حياة إسرائيل فمن ذلك قصة يوسف بن راحيل

قال تعالى {إذ قال يوسف لأبيه ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين، قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين، وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم}.

قد قدمنا أن يعقوب كان له من البنين اثنا عشر ولدا ذكرا وسميناهم، وإليهم تنسب أسباط بني إسرائيل كلهم، وكان أشرفهم وأجلهم وأعظمهم يوسف عليه السلام.

وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه لم يكن فيهم نبي غيره، وباقي اخوته لم يوح إليهم.

وظاهر ما ذكر من فعالهم ومقالهم في هذه القصة يدل على هذا القول.

ومن استدل على نبوتهم بقوله: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} وزعم أن هؤلاء هم الأسباط، فليس استدلاله بقوى، لأن المراد بالأسباط شعوب بني إسرائيل وما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين ينزل عليهم الوحي من السماء والله أعلم.

ومما يؤيد أن يوسف عليه السلام هو المختص من بين اخوته بالرسالة والنبوة - أنه ما نص على واحد من اخوته سواه فدل على ما ذكرناه.

ويستأنس لهذا بما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا عبد الرحمن، عن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ قال: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".

انفرد به البخاري. فرواه عن عبد الله بن محمد وعبدة عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وقد ذكرنا طرقه في قصة إبراهيم بما أغنى عن إعادته هنا. ولله الحمد والمنة.

قال المفسرون وغيرهم: رأى يوسف عليه السلام وهو صغير قبل أن يحتلم، كأن أحد عشر كوكبا، وهم إشارة إلى بقية إخوته، والشمس والقمر وهما عبارة عن أبويه، قد سجدوا له فهاله ذلك.

فلما استيقظ قصها على أبيه، فعرف أبوه أنه سينال منزلة عالية ورفعة عظيمة في الدنيا والآخرة، بحيث يخضع له أبواه وأخوته فيها. فأمره بكتمانها وألا يقصها على أخوته؛ كي لا يحسدوه ويبغوا له الغوائل ويكيدوه بأنواع الحيل والمكر. وهذا يدل على ما ذكرناه.

ولهذا جاء في بعض الآثار: "استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمانها فإن كل ذي نعمة محسود".

وعند أهل الكتاب أنه قصها على أبيه وأخوته معا. وهو غلط منهم.

{وكذلك يجتبيك ربك} أي وكما أراك هذه الرؤية العظيمة، فإذا كتمتها {يجتبيك ربك} أي يخصك بأنواع اللطف والرحمة، {ويعلمك من تأويل الأحاديث} أي يفهمك من معاني الكلام وتعبير المنام ما لا يفهمه غيرك.

{ويتم نعمته عليك} أي بالوحي إليك {وعلى آل يعقوب} أي بسببك، ويحصل لهم بك خير الدنيا والآخرة. {كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق} أي ينعم عليك ويحسن إليك بالنبوة، كما أعطاها أباك يعقوب، وجدك اسحاق، ووالد جدك إبراهيم الخليل، {إن ربك عليم حكيم}كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته}.

ولهذا قال رسول الله ﷺ لما سئل أي الناس أكرم؟ قال: "يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله".

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما، وأبو يعلى والبزار في مسنديهما، من حديث الحكم بن ظهير - وقد ضعفه الأئمة - على السدي عن عبد الرحمن بن سابط، عن جابر قال: أتى النبي ﷺ رجل من اليهود يقال له: بستانة اليهودي، فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماءها؟ قال: فسكت النبي ﷺ فلم يجبه بشيء، ونزل جبريل عليه السلام بأسمائها، قال: فبعث إليه رسول الله فقال: "هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسماءها؟" قال: نعم. فقال: هي جريان، والطارق، والذيال، وذو الكتفان، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفيلق، والمصبح، والضروح، وذو الفرع. والضياء، والنور".

فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها. وعند أبي يعلى فلما قصها على أبيه قال: هذا أمر مشتت يجمعه الله والشمس أبوه والقمر أمه.

قال تعالى {لقد كان في يوسف واخوته آيات للسائلين، إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين، اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين، قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين}.

ينبه تعالى على ما في هذه القصة من الآيات والحكم، والدلالات والمواعظ والبينات. ثم ذكر حسد إخوة يوسف له على محبة أبيه له ولأخيه - يعنون شقيقه لأمه بنيامين - أكثر منهم، وهم عصبة أي جماعة يقولون: فكنا نحن أحق بالمحبة من هذين {إن أبانا لفي ضلال مبين} أي بتقديمه حبهما علينا.

ثم اشتوروا فيما بينهم في قتل يوسف أو إبعاده إلى أرض لا يرجع منها ليخلو لهم وجه أبيهم أي لتتمحض محبته لهم وتتوفر عليهم، وأضمروا التوبة بعد ذلك.

فلما تمالأوا على ذلك وتوافقوا عليه {قال قائل منهم} قال مجاهد: هو شمعون، وقال السدي: هو يهوذا، وقال قتادة ومحمد بن إسحاق: هو أكبرهم روبيل: {لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة} أي المارة من المسافرين {إن كنتم فاعلين} ما تقولون لا محالة، فليكن هذا الذي أقول لكم، فهو أقرب حالا من قتله أو نفيه وتغريبه.

فأجمعوا رأيهم على هذا، فعند ذلك {قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون، أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون، قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون، قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون}. طلبوا من أبيهم أن يرسل معهم أخاهم يوسف، وأظهروا له أنهم يريدون أن يرعى معهم وأن يلعب وينبسط، وقد أضمروا له ما الله به عليم.

فأجابهم الشيخ، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم: يا بني يشق علي أن أفارقه ساعة من النهار، ومع هذا أخشى أن تشتغلوا في لعبكم وما أنتم فيه، فيأتي الذئب فيأكله، ولا يقدر على دفعه عنه لصغره وغفلتكم عنه.

{قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون} أي لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا، أو اشتغلنا عنه حتى وقع هذا ونحن جماعة، إنا إذن لخاسرون، أي عاجزون هالكون.

وعند أهل الكتاب: أنه أرسله وراءهم يتبعهم، فضل عن الطريق حتى أرشده رجل إليهم. وهذا أيضا من غلطهم وخطئهم في التعريب؛ فإن يعقوب عليه السلام كان أحرص عليه من أن يبعثه معهم، فكيف يبعثه وحده.

{فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون، وجاءوا أباهم عشاء يبكون، قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين، وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.

لم يزالوا بأبيهم حتى بعثه معهم، فما كان إلا أن غابوا عن عينيه، فجعلوا يشتمونه ويهينونه بالفعال والمقال، وأجمعوا على إلقائه في غيابت الجب، أي في قعره على راعونته، وهي الصخرة التي تكون في وسطه يقف عليها المائح، وهو الذي ينزل ليملي الدلاء، إذا قل الماء، والذي يرفعها بالحبل يسمى الماتح.

فلما ألقوه فيه أوحى الله إليه: أنه لا بد لك من فرج ومخرج من هذه الشدة التي أنت فيها، ولتخبرن أخوتك بصنيعهم هذا، في حال أنت فيها عزيز، وهم محتاجون إليك خائفون منك {وهم لا يشعرون}.

قال مجاهد وقتادة: وهم لا يشعرون بإيحاء الله إليه ذلك. وعن ابن عباس {وهم لا يشعرون}، أي لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال لا يعرفونك فيها. رواه ابن جرير عنه.

فلما وضعوه فيه ورجعوا عنه أخذوا قميصه فلطخوه بشيء من دم ورجعوا إلى أبيهم عشاء وهم يبكون، أي على أخيهم. ولهذا قال بعض السلف: لا يغرنك بكاء المتظلم فرب ظالم وهو باك، وذكر بكاء إخوة يوسف، وقد جاءوا أباهم عشاء يبكون، أي في ظلمه الليل ليكون أمشي لغدرهم لا لعذرهم.

{قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا} أي ثيابنا {فأكله الذئب} أي في غيبتنا عنه في استباقنا، وقولهم: {وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين} أي وما أنت بمصدق لنا في الذي أخبرناك من أكل الذئب له، ولو كنا غير متهمين عندك، فكيف وأنت تتهمنا في هذا؟ فإنك خشيت أن يأكله الذئب، وضمنا لك أن لا يأكله لكثرتنا حوله، فصرنا غير مصدقين عندك فمعذور أنت في عدم تصديقك لنا والحالة هذه. {وجاءوا على قميصه بدم كذب} أي مكذوب مفتعل، لأنهم عمدوا إلى سخلة ذبحوها فأخذوا من دمها فوضعوه على قميصه ليوهموه أنه أكله الذئب، قالوا: ونسوا أن يخرقوه، وآفة الكذب النسيان. ولما ظهرت عليهم علائم الريبة لم يرج صنيعهم على أبيهم، فإنه كان يفهم عداوتهم له، وحسدهم إياه على محبته له من بينهم أكثر منهم، لما كان يتوسم فيه من الجلالة والمهابة التي كانت عليه في صغره لما يريد الله أن يخصه به من نبوته. ولما راودوه عن أخذه، فبمجرد ما أخذوه أعدموه وغيبوه عن عينيه وجاؤوا وهم يتباكون، وعلى ما تملأوا يتواطؤن ولهذا {قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون}.

وعند أهل الكتاب: أن روبيل أشار بوضعه في الجب ليأخذه من حيث لا يشعرون، ويرده إلى أبيه، فغافلوه وباعوه لتلك القافلة. فلما جاء روبيل آخر النهار ليخرج يوسف لم يجده فصاح وشق ثيابه. وعمد أولئك إلى جدي فذبحوه ولطخوا من دمه جبة يوسف. فلما علم يعقوب شق ثيابه ولبس مئزرا أسود، وحزن على ابنه أياما كثيرة.

وهذه الركاكة جاءت من خطئهم في التعبير والتصوير.

{وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون، وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين}.

يخبر تعالى عن قصة يوسف حين وضع في الجب أنه جلس ينتظر فرج الله ولطفه به فجاءت سيارة، أي مسافرون.قال أهل الكتاب كانت بضاعتهم من الفستق والصنوبر والبطم، قاصدين ديار مصر، من الشام، فأرسلوا بعضهم ليستقوا من ذلك البئر، فلما أدلى أحدهم دلوه، تعلق فيه يوسف.

فلما رآه ذلك الرجل: {قال يا بشرى} أي يا بشارتي {هذا غلام وأسروه بضاعة} أي اوهموا انه معهم غلام من جملة متجرهم، {والله عليم بما يعملون} أي هو عالم بما تمالأ عليه اخوته وبما يسره واجدوه، من انه بضاعة لهم، ومع هذا لا يغيره تعالى، لماله في ذلك من الحكمة العظيمة، والقدر السابق، والرحمة بأهل مصر، بما يجري الله على يدي هذا الغلام الذي يدخلها في صورة أسير رقيق، ثم بعد هذا يملكه أزمة الأمور، وينفعهم الله به في دنياهم وأخراهم بما لا يحد ولا يوصف.

ولما استشعر أخوة يوسف بأخذ السيارة له، لحقوهم وقالوا: هذا غلامنا أبق منا فاشتروه منهم بثمن بخس، أي قليل نزر، وقيل: هو الزيف {دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين}.

قال ابن مسعود وابن عباس ونوف البكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي: باعوه بعشرين درهما اقتسموها درهمين. وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهما. وقال عكرمة ومحمد بن إسحاق: أربعون درهما، فالله أعلم.

{وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه} أي أحسني إليه {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} وهذا من لطف الله به ورحمته وإحسانه إليه بما يريد أن يؤهله له، ويعطيه من خيري الدنيا والآخرة.

قالوا: وكان الذي اشتراه من أهل مصر عزيزها، وهو الوزير بها الذي {تكون} الخزائن مسلمة إليه. قال ابن إسحاق: واسمه أطفير بن روحيب، قال: وكان ملك مصر يومئذ الريان بن الوليد، رجل من العماليق، قال: واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل. وقال غيره: كان اسمها زليخا، والظاهر أنه لقبها. وقيل: "فكا" بنت ينوس، رواه الثعلبي عن ابن هشام الرفاعي.

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن السائب، عن أبي الصالح، عن ابن عباس: كان اسم الذي باعه بمصر، يعني الذي جلبه إليها مالك بن ذعر بن نويب بن عفقا بن مديان بن إبراهيم، فالله أعلم.

وقال ابن إسحاق عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته اكرمي مثواه، والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

ثم قيل: اشتراه العزيز بعشرين دينارا. وقيل: بوزنه مسكا، ووزنه حريرا، ووزنه ورقا. فالله أعلم.

وقوله: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} أي وكما قيضنا هذا العزيز وامرأته يحسنان إليه، ويعتنيان به مكنا له في أرض مصر {ولنعلمه من تأويل الأحاديث} أي فهمها. وتعبير الرؤيا من ذلك {والله غالب على أمره}، أي إذا أراد شيئا فإنه يقيض له أسبابا وأمورا لا يهتدي إليها العباد، ولهذا قال تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.

{ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين} فدل على أن هذا كله كان وهو قبل بلوغ الأشد، وهو حد الأربعين الذي يوحي الله فيه إلى عباده النبيين عليهم الصلاة والسلام من رب العالمين.

وقد اختلفوا في مدة العمر الذي هو بلوغ الأشد، فقال مالك وربيعة وزيد بن أسلم والشعبي: هو الحلم، وقال سعيد بن جبير، ثماني عشرة سنة، وقال الضحاك: عشرون سنة، وقال عكرمة: خمس وعشرون سنة، وقال السدي: ثلاثون سنة. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة، ثلاث وثلاثون سنة، وقال الحسن أربعون سنة. ويشهد له قوله تعالى: {حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة}.

{وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين، واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم، قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين}.

يذكر تعالى ما كان من مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام عن نفسه، وطلبها منه ما لا يليق بحاله ومقامه، وهي في غاية الجمال والمال والمنصب والشباب، وكيف غلقت الأبواب عليها وعليه، وتهيأت له، وتصنعت ولبست أحسن ثيابها وأفخر لباسها، وهي مع هذا كله امرأة الوزير. قال ابن إسحاق: وبنت أخت الملك الريان بن الوليد صاحب مصر.

وهذا كله مع أن يوسف عليه السلام شاب بديع الجمال والبهاء، إلا انه نبي من سلالة الأنبياء، فعصمه ربه عن الفحشاء. وحماه عن مكر النساء. فهو سيد السادة النجباء السبعة الأتقياء. المذكورين في "الصحيحين" عن خاتم الأنبياء. في قوله عليه الصلاة والسلام من رب الأرض والسماء: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وشاب نشأ في عبادة الله ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله".

والمقصود أنها دعته إليها وحرصت على ذلك أشد الحرص، فقال: {معاذ الله إنه ربي}. يعني زوجها صاحب المنزل سيدي {أحسن مثواي} أي احسن إلي واكرم مقامي عنده {إنه لا يفلح الظالمون} وقد تكلمنا على قوله: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه} بما فيه كفاية ومقنع في التفسير.

وأكثر أقوال المفسرين ها هنا متلقى من كتب أهل الكتاب فالإعراض عنه أولى بنا.

والذي يجب أن يعتقد أن الله تعالى عصمه وبرأه ونزهه عن الفاحشة وحماه عنها وصانه منها. ولهذا قال تعالى: {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}.

{واستبقا الباب} أي هرب منها طالبا الباب ليخرج منه فرارا منها فاتبعته في أثره {وألفيا} أي وجدا {سيدها} أي زوجها {لدى الباب}، فبدرته بالكلام وحرضته عليه {قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم}. اتهمته وهي المتهمة، وبرأت عرضها، ونزهت ساحتها، فلهذا قال يوسف عليه السلام: {هي راودتني عن نفسي} احتاج إلى أن يقول الحق عند الحاجة.

{وشهد شاهد من أهلها} قيل: كان صغيرا في المهد قاله ابن عباس. وروي عن أبي هريرة، وهلال بن يساف، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والضحاك واختاره ابن جرير. وروى فيه حديثا مرفوعا عن ابن عباس ووقفه غيره عنه.

وقيل: كان رجلا قريبا إلى أطفير بعلها. وقيل قريبا إليها. وممن قال: إنه كان رجلا: ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وزيد بن أسلم.

فقال: {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين}. أي لأنه يكون قد راودها فدافعته حتى قدت مقدم قميصه {وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين} أي لأنه يكون قد هرب منها فاتبعته وتعلقت فيه فانشق قميصه لذلك، وكذلك كان. ولهذا قال تعالى: {فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم} أي هذا الذي جرى من مكركن، أنت راودتيه عن نفسه. ثم اتهمته بالباطل.

ثم أضرب بعلها عن هذا صفحا، فقال: {يوسف أعرض عن هذا} أي لا تذكره لأحد، لأن كتمان مثل هذه الأمور هو الأليق والأحسن، وأمرها بالاستغفار لذنبها الذي صدر منها، والتوبة إلى ربها فإن العبد إذا تاب إلى الله تاب الله عليه.

وأهل مصر وإن كانوا يعبدون الأصنام إلا انهم يعلمون أن الذي يغفر الذنوب ويؤاخذ بها هو الله وحده لا شريك له في ذلك. ولهذا قال لها بعلها، وعذرها من بعض الوجوه، لأنها رأت ما لا صبر لها على مثله، إلا انه عفيف نزيه برئ العرض سليم الناحية، فقال: {واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين}.

{وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين، فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن واعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم، قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكون من الصاغرين، قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين، فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم}.

يذكر تعالى ما كان من قبل نساء المدينة، من نساء الأمراء، وبنات الكبراء في الطعن على امرأة العزيز، وعيبها والتشنيع عليها، في مراودتها فتاها، وحبها الشديد له، وهو لا يساوي هذا، لأنه مولى من الموالي، وليس مثله أهلا لهذا، ولهذا قلن: {إنا لنراها في ضلال مبين} أي في وضعها الشيء في غير محله.

{فلما سمعت بمكرهن} أي بتشنيعهن عليها والتنقص لها والإشارة إليها بالعيب، والمذمة بحب مولاها، وعشق فتاها، فأظهرن ذما، وهي معذورة في نفس الأمر، فلهذا أحبت أن تبسط عذرها عندهن، وتتبين أن هذا الفتى ليس كما حسبن، ولا من قبيل ما لديهن. فأرسلت إليهن فجمعتهن في منزلها، واعتدت لهن ضيافة مثلهن، وأحضرت في جملة ذلك شيئا مما يقطع بالسكاكين، كالأترج ونحوه، وأتت كل واحدة منهن سكينا، وكانت قد هيأت يوسف عليه السلام وألبسته أحسن الثياب، وهو في غاية طراوة الشباب، وأمرته بالخروج عليهن بهذه الحالة، فخرج وهو أحسن من البدر لا محالة.

{فلما رأينه أكبرنه} أي أعظمنه وأجللنه، وهبنه، وما ظنن أن يكون مثل هذا في بني آدم، وبهرهن حسنه، حتى اشتغلن عن أنفسهن وجعلن يحززن في أيديهن بتلك السكاكين، ولا يشعرن بالجراح {وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم}.

وقد جاء في حديث الإسراء "فمررت بيوسف وإذا هو قد أعطي شطر الحسن".

قال السهيلي وغيره من الأئمة، معناه أنه كان على النصف من حسن آدم عليه السلام. لأن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، فكان في غاية نهايات الحسن البشري، ولهذا يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم وحسنه، ويوسف كان على النصف من حسن آدم، ولم يكن بينهما احسن منهما، كما أنه لم تكن أنثى بعد حواء أشبه بها من سارة امرأة الخليل عليه السلام.

قال ابن مسعود: وكان وجه يوسف مثل البرق، وكان إذا أتته امرأة لحاجة غطى وجهه. وقال غيره: كان في الغالب مبرقعا، لئلا يراه الناس. ولهذا لما قدم عذر امرأة العزيز في محبتها لهذا المعنى المذكور، وجرى لهن وعليهن ما جرى، من تقطيع أيديهن بجراح السكاكين، وما ركبهن من المهابة والدهش عند رؤيته ومعاينته.

{قالت فذلكن الذي لمتنني فيه} ثم مدحته بالعفة التامة فقالت: {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} أي امتنع {ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكون من الصاغرين}.

وكان بقية النساء حرضنه على السمع والطاعة لسيدته فأبى أشد الآباء، ونأى لأنه من سلالة الأنبياء، ودعا فقال: في دعائه لرب العالمين، {رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين}. يعني إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي إلا العجز والضعف، ولا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا، إلا ما شاء الله، فأنا ضعيف، إلا ما قويتني وعصمتني وحفظتني وأحطتني بحولك وقوتك.

ولهذا قال تعالى: {فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم، ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين، ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين، قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون، واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون، يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}.

يذكر تعالى عن العزيز وامرأته أنهم بدا لهم، أي ظهر لهم من الرأي، بعد ما علموا براءة يوسف، أن يسجنوه إلى وقت، ليكون ذلك أقل لكلام الناس، في تلك القضية، وأخمد لأمرها، وليظهروا أنه راودها عن نفسها، فسجن بسببها، فسجنوه ظلما وعدوانا.

وكان هذا مما قدر الله له. ومن جملة ما عصمه به فإنه أبعد له عن معاشرتهم ومخالطتهم. ومن ها هنا استنبط بعض الصوفية ما حكاه عنهم الشافعي: أن من العصمة أن لا تجد!.

قال الله {ودخل معه السجن فتيان} قيل كان أحدهما ساقي الملك، واسمه فيما قيل: "نبوا". والآخر خبازه، يعني الذي يلي طعامه، وهو الذي يقول له الترك (الجاشنكير) واسمه فيما قيل: "مجلث". كان الملك قد اتهمهما في بعض الأمور فسجنهما. فلما رأيا يوسف في السجن أعجبهما سمته وهديه، ودله وطريقته، وقوله وفعله، وكثرة عبادته ربه، وإحسانه إلى خلقه، فرأى كل واحد منهما رؤيا تناسبه.

قال أهل التفسير: رأيا في ليلة واحدة، أما الساقي فرأى كأن ثلاث قضبان من حبلة، وقد أورقت وأينعت عناقيد العنب فأخذها، فاعتصرها في كأس الملك وسقاه. ورأى الخباز على رأسه ثلاث سلال من خبز، وضواري الطيور تأكل من السل الأعلى.

فقصاها عليه وطلبا منه أن يعبرها لهما، وقالا: {إنا نراك من المحسنين} فأخبرهما أنه عليم بتعبيرها خبير بأمرها {قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما}. قيل: معناه مهما رأيتما من حلم فإني أعبره لكم قبل وقوعه فيكون كما أقول.

وقيل: معناه إني أخبركما بما يأتيكما من الطعام، قبل مجيئه حلوا أو حامضا، كما قال عيسى: {وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم}.

وقال لهما إن هذا من تعليم الله إياي لأني مؤمن به موحد له متبع ملة آبائي الكرام إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب {ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا} أي بأن هدانا لهذا {وعلى الناس} أي بأن أمرنا ندعوهم إليه ونرشدهم وندلهم عليه وهو في فطرهم مركوز، وفي جبلتهم مغروز {ولكن أكثر الناس لا يشكرون}.

ثم دعاهم إلى التوحيد، وذم عبادة ما سوى الله عز وجل وصغر أمر الأوثان، وحقرها وضعف أمرها، فقال: {يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله} أي المتصرف في خلقه الفعال لما يريد الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء {أمر ألا تعبدوا إلا إياه} أي وحده لا شريك له و {ذلك الدين القيم}، أي المستقيم والصراط القويم {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} أي فهم لا يهتدون إليه مع وضوحه وظهوره.

وكانت دعوته لهما في هذه الحال في غاية الكمال، لأن نفوسهما معظمة له منبعثة على تلقي ما يقول بالقبول، فناسب أن يدعوهما إلى ما هو الأنفع لهما، مما سألا عنه وطلبا منه.

ثم لما قام بما وجب عليه، وأرشد إلى ما أرشد إليه، قال {يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا} قالوا: وهو الساقي

{وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه} قالوا: وهو الخباز {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}. أي وقع هذا لا محالة، ووجب كونه على كل حالة. ولهذا جاء في الحديث "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت".

وقد روي عن ابن مسعود ومجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم "أنهما قالا لم نر شيئا" فقال لهما: {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان}.

{وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين}.

يخبر تعالى أن يوسف عليه السلام قال للذي ظنه ناجيا منهما وهو الساقي: {اذكرني عند ربك} يعني أذكر أمري وما أنا فيه من السجن بغير جرم عند الملك. وفي هذا دليل على جواز السعي في الأسباب. ولا ينافي ذلك التوكل على رب الأرباب.

وقوله {فأنساه الشيطان ذكر ربه}، أي فأنسي الناجي منهما الشيطان، أن يذكر ما وصاه به يوسف عليه السلام. قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد وهو الصواب، وهو منصوص أهل الكتاب.

{فلبث} يوسف {في السجن بضع سنين} والبضع ما بين الثلاث إلى التسع. وقيل إلى السبع. وقيل إلى الخمس. وقيل ما دون العشرة. حكاها الثعلبي. ويقال بضع نسوة. وبضعة رجال. ومنع الفراء استعمال البضع فيما دون العشر، قال: وإنما يقال نيف. وقال الله تعالى: {فلبث في السجن بضع سنين} وقال تعالى: {في بضع سنين} وهذا رد لقوله.

قال الفراء: ويقال بضعة عشر، وبضعة وعشرون إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة، وبضع وألف، وخالف الجوهري فيما زاد على بضعة عشر، فمنع أن يقال: بضعة وعشرون إلى تسعين. وفي الصحيح "الإيمان بضع وستون شعبة، وفي رواية: وسبعون شعبة، وأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق".

ومن قال: إن الضمير في قوله {فأنساه الشيطان ذكر ربه} عائد على يوسف فقد ضعف ما قاله، وإن كان قد روي عن ابن عباس وعكرمة.

والحديث الذي رواه ابن جرير في هذا الموضع ضعيف من كل وجه، تفرد بإسناده إبراهيم بن يزيد الخوري المكي وهو متروك، ومرسل الحسن وقتادة لا يقبل، ولا ها هنا بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم.

فأما قول ابن حبان في "صحيحه" عند ذكر السبب الذي من أجله لبث يوسف في السجن ما لبث: أخبرنا الفضل بن الحباب الجحمي، حدثنا مسدد بن مسرهد، حدثنا خالد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ "رحم الله يوسف لولا الكلمة التي قالها "اذكرني عند ربك" ما لبث في السجن ما لبث، ورحم الله لوطا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه "لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد" قال: فما بعث الله نبيا بعده إلا في ثروة من قومه".

فإنه حديث منكر من هذا الوجه، ومحمد بن عمرو بن علقمة له أشياء ينفرد بها وفيها نكارة، وهذه اللفظة من أنكرها وأشدها. والذي في "الصحيحين" يشهد بغلطها، والله أعلم.

﴿وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون﴾.

هذا كان من جملة أسباب خروج يوسف عليه السلام من السجن على وجه الاحترام والإكرام، وذلك أن ملك مصر وهو الريان بن الوليد بن ثروان بن اراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح رأى هذه الرؤيا.

قال أهل الكتاب: رأى كأنه على حافة نهر، وكأنه قد خرج منه سبع بقرات سمان، فجعلن يرتعن في روضة هناك فخرجت سبع هزال ضعاف من ذلك النهر، فرتعن معهن ثم ملن عليهن فأكلتهن فاستيقظ مذعورا.

ثم نام فرأى سبع سنبلات خضر في قصبة واحدة، وإذا سبع أخر دقاق يابسات، فأكلنهن فاستيقظ مذعورا. فلما قصها على ملأه وقومه، لم يكن فيهم من يحسن تعبيرها بل {قالوا أضغاث أحلام} أي أخلاط أحلام من الليل، لعلها لا تعبير لها، ومع هذا فلا خبرة لنا بذلك، ولهذا قالوا: {وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين} فعند ذلك تذكر الناجي منهما الذي وصاه يوسف بأن يذكره عند ربه فنسيه إلى حينه هذا. وذلك عن تقدير الله عز وجل، وله الحكمة في ذلك، فلما سمع رؤيا الملك، ورأى عجز الناس عن تعبيرها، تذكر أمر يوسف، وما كان أوصاه به من التذكار.

ولهذا قال تعالى: {وقال الذي نجا منهما} أي تذكر {بعد أمة} أي بعد مدة من الزمان، وهو بضع سنين، وقرأ بعضهم، كما حكي عن ابن عباس وعكرمة والضحاك: {وادكر بعد أمة} أي بعد نسيان، وقرأها مجاهد {بعد أمة} بإسكان الميم، وهو النسيان أيضا، يقال أمه الرجل يأمه أمها وأمها، إذا نسي. قال الشاعر:

أمهت وكنت لا أنسى حديثا *** كذاك الدهر يزري بالعقول

فقال لقومه وللملك {أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون}، أي فأرسلوني إلى يوسف، فجاءه فقال: {يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون}.

وعند أهل الكتاب أن الملك لما ذكره له الساقي استدعاه إلى حضرته وقص عليه ما رآه ففسره له، وهذا غلط، والصواب: ما قصه الله في كتابه القرآن لا ما عربه هؤلاء الجهلة الثيران، من فري وهذيان.

فبذل يوسف عليه السلام ما عنده من العلم بلا تأخر ولا شرط ولا طلب الخروج سريعا، بل أجابهم إلى ما سألوا، وعبر لهم ما كان من منام الملك الدال على وقوع سبع سنين من الخصب ويعقبهما سبع جدب: {ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس} يعني يأتيهم الغيث والخصب والرفاهية {وفيه يعصرون} يعني ما كانوا يعصرونه من الأقصاب والأعناب والزيتون والسمسم وغيرها.

فعبر لهم. وعلى الخير دلهم وأرشدهم، إلى ما يعتمدونه في حالتي خصبهم وجدبهم وما يفعلونه من ادخار حبوب سنى الخصب في السبع الأول في سنبله، إلا ما يرصد بسبب الأكل ومن تقليل البذر في سني الجدب في السبع الثانية، إذ الغالب على الظن أنه لا يرد البذر من الحقل. وهذا يدل على كمال العلم وكمال الرأي والفهم.

{وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم، قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين، ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم}.

لما أحاط الملك علما بكمال علم يوسف عليه الصلاة والسلام وتمام عقله ورأيه السديد وفهمه، أمر بإحضاره إلى حضرته، ليكون من جملة خاصته، فلما جاءه الرسول بذلك أحب أن لا يخرج حتى يتبين لكل أحد انه حبس ظلما وعدوانا، وأنه بريء الساحة مما نسبوه إليه بهتانا {قال ارجع إلى ربك} يعني الملك {فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم} قيل: معناه إن سيدي العزيز يعلم براءتي مما نسب إلي، أي فمر الملك فليسألهن: كيف كان امتناعي الشديد عند مراودتهن إياي؟ وحثهن لي على الأمر الذي ليس برشيد ولا سديد؟

فلما سئلن عن ذلك اعترفن بما وقع من الأمر، وما كان منه من الأمر الحميد و{قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء}.

فعند ذلك {قالت امرأة العزيز} وهي زليخا: {الآن حصحص الحق}. أي: ظهر وتبين ووضح، والحق أحق أن يتبع {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} أي فيما يقوله من أنه بريء وأنه لم يراودني وأنه حبس ظلما وعدوانا وزورا وبهتانا.

وقوله {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين} قيل إنه من كلام يوسف أي إنما طلبت تحقيق هذا ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب. وقيل إنه من تمام كلام زليخا، أي: إنما اعترفت بهذا ليعلم زوجي أني لم أخنه في نفس الأمر، وإنما كان مراودة لم يقع معها فعل فاحشة.

وهذا القول هو الذي نصره طائفة كثيرة من أئمة المتأخرين وغيرهم، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سوى الأول.

{وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} قيل: إنه من كلام يوسف، وقيل: من كلام زليخا، وهو مفرع على القولين الأولين. وكونه من تمام كلام زليخا أظهر وأنسب وأقوى، والله أعلم.

{وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين، قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين، ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون}.

لما ظهر للملك براءة عرضه، ونزاهة ساحته عما كانوا أظهروا عنه مما نسبوه إليه قال {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي} أي اجعله من خاصتي ومن أكابر دولتي، ومن أعيان حاشيتي، فلما كلمه وسمع مقاله وتبين حاله {قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} أي ذو مكانة وأمانة. {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} طلب أن يوليه النظر فيما يتعلق بالأهراء لما يتوقع من حصول الخلل فيما بعد مضي سبع سنى الخصب، لينظر فيها بما يرضي الله في خلقه من الاحتياط لهم والرفق بهم، وأخبر الملك إنه حفيظ، أي قوي على حفظ ما لديه أمين عليه، عليم بضبط الأشياء ومصالح الأهراء.

وفي هذا دليل على جواز طلب الولاية لمن علم من نفسه الأمانة والكفاءة.

وعند أهل الكتاب أن فرعون عظم يوسف عليه السلام جدا، وسلطه على جميع أرض مصر وألبسه خاتمه، وألبسه الحرير وطوقه الذهب وحمله على مركبه الثاني، ونودي بين يديه، أنت رب ومسلط، وقال له: لست أعظم منك إلا بالكرسي.

قالوا: وكان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، وزوجه امرأة عظيمة الشأن.

وحكى الثعلبي أنه عزل قطفير عن وظيفته، وولاها يوسف.

وقيل: إنه مات، زوجه امرأته زليخا، فوجدها عذراء لأن زوجها كان لا يأتي النساء، فولدت ليوسف عليه السلام رجلين، وهما:

أفرايم، ومنسا. قال: واستوثق ليوسف ملك مصر، وعمل فيهم بالعدل فأحبه الرجال والنساء.

وحكي أن يوسف كان يوم دخل على الملك عمره ثلاثين سنة، وأن الملك خاطبه بسبعين لغة، وفي كل ذلك يجاوبه بكل لغة منها، فأعجبه ذلك مع حداثة سنه فالله أعلم.

قال الله تعالى: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء} أي بعد السجن والضيق والحصر صار مطلق الركاب بديار مصر، {يتبوأ منها حيث يشاء} أي أين شاء حل منها مكرما محسودا معظما.

{نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين} من أي هذا كله من جزاء الله وثوابه للمؤمن، مع ما يدخر له في آخرته من الخير الجزيل والثواب الجميل.

ولهذا قال: {ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون}.

ويقال: إن قطفير زوج زليخا كان قد مات فولاه الملك مكانه وزوجه امراته زليخا فكان وزير صدق.

وذكر محمد بن إسحاق أن صاحب مصر - الوليد بن الريان - أسلم على يدي يوسف عليه السلام والله أعلم. وقد قال بعضهم:

وراء مضيق الخوف متسع الأمن ** وأول مفروح به غاية الحزن

فلا تيأسن فالله ملك يوسفا ** خزائنه بعد الخلاص من السجن

{وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون، ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربوني، قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون، وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون}.

يخبر تعالى عن قدوم أخوة يوسف عليه السلام إلى الديار المصرية يمتارون طعاما، وذلك بعد إتيان سنى الجدب وعمومها على سائر العباد والبلاد.

وكان يوسف عليه السلام إذ ذاك الحاكم في أمور الديار المصرية دينا ودنيا. فلما دخلوا عليه عرفهم ولم يعرفوه لأنهم لم يخطر ببالهم ما صار إليه يوسف عليه السلام من المكانة والعظمة فلهذا عرفهم وهم له منكرون.

وعند أهل الكتاب: أنهم لما قدموا عليه سجدوا له، فعرفهم وأراد أن لا يعرفوه، فأغلظ لهم في القول، وقال: أنتم جواسيس، جئتم لتأخذوا خير بلادي. فقالوا: معاذ الله إنما جئنا نمتار لقومنا من الجهد والجوع الذي أصابنا، ونحن بنو أب واحد من كنعان، ونحن اثنا عشر رجلا، ذهب منا واحد وصغيرنا عند أبينا، فقال: لا بد أن استعلم أمركم. وعندهم: أنه حبسهم ثلاثة أيام، ثم أخرجهم وأحتبس شمعون عنده ليأتوه بالأخ الآخر وفي بعض هذا نظر.

قال الله تعالى {ولما جهزهم بجهازهم} أي أعطاهم من الميرة ما جرت به عادته في إعطاء كل إنسان حمل بعير لا يزيده عليه {قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم} وكان قد سألهم عن حالهم وكم هم، فقالوا: كنا إثني عشر رجلا، فذهب منا واحد وبقي شقيقه عند أبينا، فقال: إذا قدمتم من العام المقبل فأتوني به معكم.

{ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين} أي قد أحسنت نزلكم وقراكم، فرغبهم ليأتوه به، ثم رهبهم إن لم يأتوه به، قال: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربوني} أي فلست أعطيكم ميرة، ولا أقربكم بالكلية، عكس ما أسدى إليهم أولا.

فاجتهد في إحضاره معهم، ليبل شوقه منه بالترغيب والترهيب

{قالوا سنراود عنه أباه} أي سنجتهد في مجيئه معنا، وإتيانه إليك بكل ممكن {وإنا لفاعلون} أي وإنا لقادرون على تحصيله.

ثم أمر فتيانه أن يضعوا بضاعتهم، وهي ما جاؤا به يتعوضون به عن الميرة، في أمتعتهم من حيث لا يشعرون بها {لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون} قيل: أراد أن يردوها إذا وجدوها في بلادهم. وقيل: خشي أن لا يكون عندهم ما يرجعون به مرة ثانية. وقيل: تذمم أن يأخذ منهم عوضا عن الميرة.

وقد اختلف المفسرون في بضاعتهم، على أقوال سيأتي ذكرها. وعند أهل الكتاب: أنها كانت صررا من ورق، وهو أشبه والله أعلم.

{فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون، قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين، ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير، قال لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتونني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل، وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون، ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.

يذكر تعالى ما كان من أمرهم بعد رجوعهم إلى أبيهم، وقولهم له: {منع منا الكيل} أي بعد عامنا هذا إن لم ترسل معنا أخانا، فإن أرسلته معنا لم يمنع منا.

{ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي} أي: أي شيء نريد وقد ردت إلينا بضاعتنا {ونمير أهلنا} أي نمتار لهم، ونأتيهم بما يصلحهم في سنتهم ومحلهم {ونحفظ أخانا ونزداد} بسببه {كيل بعير}.

قال الله تعالى: {ذلك كيل يسير} أي في مقابلة ذهاب ولده الآخر.

وكان يعقوب عليه السلام اضن شيء بولده بنيامين، لأنه كان يشم فيه رائحة أخيه، ويتسلى به عنه، ويتعوض بسببه منه.

فلهذا قال: {قال لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقا من الله لتأتونني به إلا أن يحاط بكم} أي إلا أن تغلبوا كلكم عن الإتيان به {فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل}.

أكد المواثيق، وقرر العهود، واحتاط لنفسه في ولده، ولن يغني حذر من قدر. ولولا حاجته وحاجة قومه إلى الميرة لما بعث الولد العزيز، ولكن الأقدار لها أحكام، والرب تعالى يقدر ما يشاء، ويختار ما يريد، ويحكم ما يشاء وهو الحكيم العليم.

ثم أمرهم أن لا يدخلوا المدينة من باب واحد، ولكن ليدخلوا من أبواب متفرقة. قيل: أراد أن لا يصيبهم أحد بالعين وذلك لأنهم كانوا أشكالا حسنة، وصورا بديعة. قال ابن عباس ومحمد بن كعب وقتادة والسدي والضحاك.

وقيل: أراد أن يتفرقوا لعلهم يجدون خبر ليوسف، أو يحدثون عنه بأثر. قال إبراهيم النخعي. والأول اظهر، ولهذا قال: {وما أغني عنكم من الله من شيء}.

وقال تعالى {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.

وعند أهل الكتاب: أنه بعث معهم هدية إلى العزيز، من الفستق واللوز والصنوبر والبطم والعسل، وأخذوا الدراهم الأولى، وعوضا آخر.

{ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون، فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون، قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون، قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم، قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين، قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين، قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين، فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم، قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين، قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون}.

يذكر تعالى ما كان من أمرهم حين دخلوا بأخيهم بنيامين على شقيقه يوسف وإيوائه إليه وإخباره له سرا عنهم بأنه أخوه، وأمره بكتم ذلك عنهم، وسلاه عما كان منهم من الإساءة إليه.

ثم احتال على أخذه منهم، وتركه إياه عنده دونهم، فأمر فتيانه بوضع سقايته. وهي التي كان يشرب بها ويكيل بها الناس الطعام، عن غرة في متاع بنيامين. ثم أعلمهم بأنهم قد سرقوا صواع الملك، ووعدهم جعالة على رده حمل بعير، وضمنه المنادي لهم، فأقبلوا على من اتهمهم بذلك فأنبوه وهجنوه فيما قاله لهم: {قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين} يقولون: أنتم تعلمون منا خلاف ما رميتمونا له من السرقة.

{قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين، قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين}. وهذه كانت شريعتهم أن السارق يدفع إلى المسروق منه ولهذا قالوا: {كذلك نجزي الظالمين}.

قال الله تعالى: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه} ليكون ذلك أبعد للتهمة، وأبلغ في الحيلة، ثم قال الله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك} أي لولا اعترافهم بأن جزاءه {من وجد في رحله فهو جزاؤه} لما كان يقدر يوسف على أخذه منهم في سياسة ملك مصر {إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء} أي في العلم {وفوق كل ذي علم عليم}.

وذلك لأن يوسف كان أعلم منهم، وأتم رأيا، وأقوى عزما وحزما، وإنما فعل ما فعل عن أمر الله له في ذلك لأنه يترتب على هذا الأمر مصلحة عظيمة بعد ذلك، من قدوم أبيه وقومه عليه، ووفودهم إليه.

فلما عاينوا استخراج الصواع من حمل بنيامين {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} يعنون يوسف. قيل كان قد سرق صنم جده، أبي أمه، فكسره. وقيل: كانت عمته قد علقت عليه بين ثيابه، وهو صغير، منطقة كانت لإسحاق، ثم استخرجوها من بين ثيابه، وهو لا يشعر بما صنعت، وإنما أرادت أن يكون عندها، وفي حضانتها لمحبتها له. وقيل: كان يأخذ الطعام من البيت فيطعمه الفقراء. وقيل: غير ذلك. فلهذا {قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه} وهي كلمته بعدها، وقوله {أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون} أجابهم سرا لا جهرا، حلما وكرما وصفحا وعفوا، فدخلوا معه في الترفق والتعطف، فقالوا: {يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين، قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون} أي إن أطلقنا المتهم وأخذنا البريء. هذا ما لا نفعله ولا نسمح به، وإنما نأخذ من وجدنا متاعنا عنده.

وعند أهل الكتاب: أن يوسف تعرف إليهم حينئذ وهذا مما غلطوا فيه ولم يفهموه جيدا.

{فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين، ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين، واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون، قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم، وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون، يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيئسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون}.

يقول تعالى مخبرا عنهم: إنهم لما استيأسوا من أخذه منه خلصوا يتناجون فيما بينهم، قال كبيرهم، وهو روبيل: {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله} . لتأتنني به الا أن يحاط بكم؟ لقد أخلفتم عهده وفرطتم فيه كما فرطتم في أخيه يوسف من قبله فلم يبق لي وجه أقابله به {فلن أبرح الأرض} أي لا أزال مقيما ها هنا {حتى يأذن لي أبي} في القدوم عليه {أو يحكم الله لي} بأن يقدرني على رد أخي إلى أبي {وهو خير الحاكمين}.

{ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق} أي أخبروه بما رأيتم من الأمر في الظاهر المشاهدة {وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين، واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها}. أي فإن هذا الذي أخبرناك به - من أخذهم أخانا، لأنه سرق - أمر اشتهر بمصر وعلمه العير التي كنا نحن وهم هناك {وإنا لصادقون}.

{قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل} أي ليس الأمر كما ذكرتم لم يسرق فإنه ليس سجية له، ولا {هو} خلقه، وإنما {سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل}.

قال ابن إسحاق وغيره: لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتبا على صنيعهم في يوسف، قال لهم ما قال، وهذا كما قال بعض السلف: إن من جزاء السيئة السيئة بعدها!.

ثم قال: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا}. يعني يوسف وبنيامين وروبيل {إنه هو العليم} أي بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة {الحكيم} فيما يقدره ويفعله وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة.

{وتولى عنهم} أي أعرض عن بنيه { وقال يا أسفى على يوسف}

ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم، وحرك ما كان كامنا، كما قال بعضهم:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول

وقال آخر:

لقد لامني عند القبور على البكا *** رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقال: أتبكي كل قبر رأيته ** لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك

فقلت له: إن الأسى يبعث الأسى ** فدعني فهذا كله قبر مالك

وقوله: {وابيضت عيناه من الحزن} أي من كثرة البكاء {فهو كظيم} أي مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف.

فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق {قالوا} له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه {تا لله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين}.

يقولون: لا تزال تتذكره حتى ينحل جسدك، وتضعف قوتك، فلو رفقت بنفسك كان أولى بك.

{قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} يقول لبنيه: لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس، ما أنا فيه، إنما أشكو إلى الله عز وجل، واعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا، وأعلم أن رؤيا يوسف لا بد أن تقع، ولا بد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى، ولهذا قال: {وأعلم من الله ما لا تعلمون}.

ثم قال لهم محرضا على تطلب يوسف وأخيه، وأن يبحثوا عن أمرهما {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيئسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} أي لا تيئسوا من الفرج بعد الشدة، فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه وما يقدره من المخرج في المضايق إلا القوم الكافرون.

{فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين، قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون، قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين}.

يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصدقة عليهم برد أخيهم بنيامين إليهم {فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر} أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال {وجئنا ببضاعة مزجاة } أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يتجاوز عنا قيل: كانت دراهم رديئة. وقيل: قليلة. وقيل حب الصنوبر، وحب البطم ونحو ذلك. وعن ابن عباس: كانت خلق الغرائر والحبال، ونحو ذلك.

{فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين} قيل: بقبولها، قال السدي. وقيل: برد أخينا إلينا، قاله ابن جريج. وقال سفيان بن عيينة: إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد ﷺ ونزع بهذه الآية رواه ابن جرير.

فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاؤا به مما لم يبق عندهم سواه، من ضعيف المال، تعرف إليهم وعطف عليهم، قائلا: لهم عن أمر ربه وربهم. وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الحال الذي يعرفون فيه {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون}. {قالوا} وتعجبوا كل العجب، وقد ترددوا إليه مرارا عديدة، وهم لا يعرفون أنه هو {أئنك لأنت يوسف }.

{قال أنا يوسف وهذا أخي} يعني أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم، وسلف من أمركم فيه ما فرطتم، وقوله {وهذا أخي} تأكيد لما قال، وتنبيه على ما كانوا اضمروا لهما من الحسد، وعملوا في أمرهما من الاحتيال، ولهذا قال: {قد من الله علينا}، أي بإحسانه إلينا وصدقته علينا، وإيوائه لنا وشده معاقد عزنا، وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا، وصبرنا على ما كان منكم إلينا وطاعتنا وبرنا لأبينا، ومحبته الشديدة لنا وشفقته علينا {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}.

{قالوا تالله لقد آثرك الله علينا} أي فضلك، وأعطاك ما لم يعطنا {وإن كنا لخاطئين}. أي فيما أسدينا إليك، وها نحن بين يديك.

{قال لا تثريب عليكم اليوم} أي لست أعاتبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا، ثم زادهم على ذلك فقال: {اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.

ومن زعم أن الوقف على قوله {لا تثريب عليكم}، وابتدأ بقوله {اليوم يغفر الله لكم} فقوله ضعيف، والصحيح الأول.

ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه، وهو الذي يلي جسده فيضعوه على عيني أبيه، فإنه يرجع إليه بصره، بعد ما كان ذهب بإذن الله، وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات.

ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى الأمور.

{ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندوني، قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم، فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون، قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين، قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}.

قال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهذيل، سمعت ابن عباس يقول: {ولما فصلت العير}، قال: لما خرجت العير هاجت ريح، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندوني} قال: فوجد ريحه من مسيرة ثلاثة أيام. وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي سنان به.

وقال الحسن البصري وابن جريج المكي: كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخا، وكان له منذ فارقه ثمانون سنة.

وقوله {لولا أن تفندوني} أي تقولون: إنما قلت هذا من الفند، وهو الخرف، وكبر السن. قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة: {تفندوني} تسفهون. وقال مجاهد أيضا والحسن : تهرمون.

{قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم} قال قتادة والسدي: قالوا له كلمة غليظة.

قال الله تعالى: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا} أي بمجرد ما جاء ألقى القميص على وجه يعقوب، فرجع من فوره بصيرا بعد ما كان ضريرا، وقال لنبيه عند ذلك {ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} أي أعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف وستقر عيني به وسيريني فيه ومنه ما يسرني.

فعند ذلك {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عز وجل عما كانوا فعلوا، ونالوا منه ومن أبيه، وما كانوا عزموا عليه. ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل وفقهم الله للاستغفار عند وقوع ذلك منهم فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا، وما عليه عولوا قائلا {سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}.

قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم، أرجأهم إلى وقت السحر. قال ابن جرير: حدثني أبو السائب، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب ابن دثار قال: كان عمر يأتي المسجد فسمع إنسانا يقول: "اللهم دعوتني فأجبت، وأمرتني فأطعت، وهذا السحر فاغفر لي" قال: فاستمع إلى الصوت، فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود، فسأل عبد الله عن ذلك؟ فقال: إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر. بقوله: {سوف أستغفر لكم ربي}. وقد قال الله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار}. وثبت في "الصحيحين" عن رسول الله ﷺ قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له".وقد ورد في حديث "أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة".

قال ابن جرير: حدثني المثنى؛ قال: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي، حدثنا الوليد، أنبأنا ابن جريج، عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ: "سوف استغفر لكم ربي"يقول: حتى ليلة الجمعة وهو قول أخي يعقوب لبنيه.وهذا غريب من هذا الوجه وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما.

{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم، رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين}.

هذا إخبار عن حال اجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة التي قيل: إنها ثمانون سنة، وقيل: ثلاث وثمانون سنة، وهما روايتان عن الحسن. وقيل: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. وقال محمد بن إسحاق: ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة. قال: وأهل الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة.

وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريبا، فإن المرأة راودته، وهو شاب ابن سبع عشرة سنة، فيما قاله غير واحد، فامتنع فكان في السجن بضع سنين، وهي سبع عند عكرمة وغيره. ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع، ثم لما امحل الناس في السبع البواقي جاء اخوتهم يمتارون في السنة الأولى وحدهم، وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين، وفي الثالثة تعرف إليهم وأمرهم بإحضار أهلهم أجمعين، فجاؤا كلهم.

{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه} اجتمع بهم خصوصا وحدهما دون اخوته {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}. قيل: هذا من المقدم والمؤخر، تقديره قال ادخلوا مصر وآوى إليه أبويه. وضعفه ابن جرير وهو معذور. وقيل: بل تلقاهما وآواهما في منزل الخيام، ثم لما اقتربوا من باب مصر قال {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين}. قاله السدي: ولو قيل: إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضا، وانه ضمن قوله: ادخلوا بمعنى: اسكنوا مصر، أو أقيموا بها {إن شاء الله آمنين} لكان صحيحا مليحا أيضا.

وعند أهل الكتاب: أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر - وهي أرض بلبيس - خرج يوسف لتلقيه، وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشرا بقدومه، وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر، يكونون فيها ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم، وقد ذكر جماعة من المفسرين، أنه لما أزف قدوم نبي الله يعقوب - وهو إسرائيل - أراد يوسف أن يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف، وتعظيما لنبي الله "إسرائيل"، وأنه دعا للملك، وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سنى الجدب ببركة قدومه إليهم، فالله أعلم.

وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم - فيما قاله أبو إسحاق السبيعي عن أبو عبيدة عن ابن مسعود - ثلاثة وستين إنسانا.

وقال موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: كانوا ثلاثة وثمانين إنسانا.

وقال أبو إسحاق عن مسروق: دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون إنسانا.

قالوا: وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل. وفي نص أهل الكتاب: أنهم كانوا سبعين نفسا وسموهم.

قال الله تعالى: {ورفع أبويه على العرش} قيل: كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة. وقال بعض المفسرين: أحياها الله تعالى. وقال آخرون: بل كانت خالته "ليا" والخالة بمنزلة الأم.

وقال ابن جرير وآخرون: بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ، فلا يعول على نقل أهل الكتاب فيما خالفه، وهذا قوي. والله أعلم.

ورفعهما على العرش، أي أجلسهما معه على سريره {وخروا له سجدا} أي سجد له الأبوان والأخوة الأحد عشر تعظيما وتكريما، وكان هذا مشروعا لهم، ولم يزل ذلك معمولا به في سائر الشرائع حتى حرم في ملتنا.

{وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} أي هذا تعبير ما كنت قصصته عليك: من رؤيتي الأحد عشر كوكبا، والشمس والقمر، حين رأيتهم لي ساجدين وأمرتني بكتمانها، ووعدتني ما وعدتني عند ذلك {قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن}. أي بعد الهم والضيق جعلني حاكما، نافذ الكلمة، في الديار المصرية حيث شئت {وجاء بكم من البدو} أي البادية، وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخيل {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي} أي فيما كان منهم إلي من الأمر الذي تقدم وسبق ذكره.

ثم قال: {إن ربي لطيف لما يشاء} أي: إذا أراد شيئا هيأ أسبابه ويسرها وسهلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد بل يقدرها وييسرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته {إنه هو العليم الحكيم} أي بجميع الأمور {الحكيم} في خلقه وشرعه وقدره.

وعند أهل الكتاب أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذي كان تحت يده بأموالهم كلها من الذهب والفضة والعقار والأثاث وما يملكونه كله، حتى باعهم بأنفسهم فصاروا أرقاء. ثم أطلق لهم أرضهم، وأعتق رقابهم، على أن يعملوا ويكون خمس ما يشتغلون من زرعهم وثمارهم للملك، فصارت سنة أهل مصر بعده.

وحكى الثعلبي: أنه كان لا يشبع في تلك السنين حتى لا ينسى الجيعان، وأنه إنما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار قال: فمن ثم اقتدى به الملوك في ذلك. قلت: وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يشبع بطنه عام الرمادة، حتى ذهب الجدب وأتى الخصب.

قال الشافعي: قال رجل من الأعراب لعمر بعد ما ذهب عام الرمادة: لقد انجلت عنك، وإنك لابن حرة.

ثم لما رأى يوسف عليه السلام نعمته قد تمت، وشمله قد اجتمع، عرف أن هذه الدار لا يقربها قرار. وأن كل شيء فيها ومن عليها فان. وما بعد التمام إلا النقصان فعند ذلك أثنى على ربه بما هو أهله، واعترف له بعظيم إحسانه وفضله. وسأل منه - وهو خير المسؤولين - أن يتوفاه، أي حين يتوفاه، على الإسلام. وأن يلحقه بعباده الصالحين. وهكذا كما يقال في الدعاء. "اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين" أي حين تتوفانا.

ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام، كما سأل النبي ﷺ عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملأ الأعلى والرفقاء الصالحين، من النبيين والمرسلين كما قال اللهم في الرفيق الأعلى - ثلاثا - ثم قضي.

ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الإسلام منجزا في صحة بدنه وسلامته، وان ذلك كان سائغا في ملتهم وشرعتهم. كما روي عن ابن عباس، أنه قال: ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف.

فأما في شريعتنا فقد نهى عن الدعاء بالموت إلا عند الفتن، كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين" وفي الحديث الآخر "ابن آدم الموت خير لك من الفتنة". وقالت مريم عليها السلام: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} وتمنى الموت علي بن أبي طالب لما تفاقمت الأمور، وعظمت الفتن واشتد القتال وكثر القيل والقال، وتمنى ذلك البخاري أبو عبد الله صاحب الصحيح لما اشتد عليه الحال، ولقي من مخالفيه الأهوال.

فأما في حال الرفاهية، فقد روى البخاري ومسلم في "صحيحه"ما من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: "لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، إما محسنا فلعله يزداد، وإما مسيئا، فلعله يستعتب، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي"والمراد بالضر ها هنا ما يخص العبد في بدنه من مرض ونحوه لا في دينه. والظاهر أن نبي الله يوسف عليه السلام سأل ذلك إما عند احتضاره، أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك.

وقد ذكر ابن إسحاق عن أهل الكتاب: أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة، ثم توفي عليه السلام، وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحاق. قال السدي: فصبره وسيره إلى بلاد الشام، فدفنه بالمغارة عند أبيه إسحاق وجده الخليل عليهم السلام.

وعند أهل الكتاب: أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثلاثون سنة. وعندهم انه أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة، ومع هذا قالوا: فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة.

هذا نص كتابهم، وهو غلط إما في النسخة، أو منهم، أو قد اسقطوا الكسر، وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا، فكيف يستعملون هذه الطريقة ها هنا؟.

وقد قال تعالى في كتابه العزيز: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} يوصي بنيه بالإخلاص وهو دين الإسلام الذي بعث الله به الأنبياء عليهم السلام.

وقد ذكر أهل الكتاب: أنه أوصى بنيه واحدا واحدا، وأخبرهم بما يكون من أمرهم، وبشر يهوذا بخروج نبي عظيم من نسله، تطيعه الشعوب وهو عيسى بن مريم والله أعلم.

وذكروا: أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يوما

وأمر يوسف الأطباء فطيبوه بطيب، ومكث فيه أربعين يوما ثم استأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله، فأذن له، وخرج معه أكابر مصر وشيوخها، فلما وصلوا حبرون دفنوه في المغارة، التي كان اشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثي، وعملوا له عزاء سبعة أيام.

قالوا: ثم رجعوا إلى بلادهم وعزى اخوة يوسف يوسف في أبيهم، وترققوا له، فأكرمهم وأحسن منقلبهم، فأقاموا ببلاد مصر.

ثم حضرت يوسف عليه السلام الوفاة فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه، فحنطوه ووضعوه في تابوت، فكان بمصر حتى أخرجه معه موسى عليه السلام، فدفنه عند آبائه كما سيأتي. قالوا: فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين.

هذا نصهم فيما رأيته وفيما حكاه ابن جرير أيضا. وقال مبارك بن فضالة عن الحسن: ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة، وغاب عن أبيه ثمانين سنة، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة. ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة. وقال غيره: أوصى إلى أخيه يهوذا، صلوات الله عليه وسلامه.
قصة أيوب عليه السلام

قال ابن إسحاق: كان رجلا من الروم، وهو أيوب بن موص بن زراح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل .

وقال غيره: هو أيوب بن موص بن رعويل بن العيص بن إسحاق بن يعقوب .وقيل : غير ذلك في نسبه. وحكى ابن عساكر أن أمة بنت لوط عليه السلام .وقيل كان أبوه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام، يوم ألقي في النار فلم تحرقه.

والمشهور الأول، لأنه من ذرية إبراهيم كما قررنا عند قوله تعالى: {ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون} الآيات من أن الصحيح أن الضمير عائد على إبراهيم دون نوح عليهما السلام.

وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء إليهم في سورة النساء، في قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب} الآية.

فالصحيح أنه من سلالة العيص بن إسحاق، وامرأته قيل: اسمها "ليا" بنت يعقوب. وقيل: رحمة بنت أفراثيم. وقيل "ليا" بنت منسا بن يوسف بن يعقوب. وهذا أشهر، فلهذا ذكرناه ها هنا.

ثم نعطف بذكر أنبياء بني إسرائيل بعد ذكر قصته إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.

قال الله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين} وقال تعالى في سورة ص {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب، اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب، ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب، وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب}.

وروى ابن عساكر من طريق الكلبي، أنه قال: أول نبي بعث إدريس، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم إسماعيل، ثم إسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف، ثم لوط، ثم هود، ثم صالح، ثم شعيب، ثم موسى وهارون، ثم إلياس، ثم اليسع، ثم عرفى بن سويلخ بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب، ثم يونس بن متى من بني يعقوب، ثم أيوب بن زراح بن آموص بن ليفرز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم. وفي بعض هذا الترتيب نظر، فإن هودا وصالحا المشهور أنهما بعد نوح. وقيل إبراهيم والله أعلم.

قال علماء التفسير والتاريخ وغيرهم: كان أيوب رجلا كثير المال، من سائر صنوفه وأنواعه من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة بأرض الثنية من أرض حوران.وحكى ابن عساكر: أنها كلها كانت له، وكان له أولاد وأهلون كثير.

فسلب منه ذلك جميعه، وابتلي في جسده بأنواع من البلاء، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه. يذكر الله عز وجل بهما وهو في ذلك كله صابر محتسب ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره وصباحه ومسائه.

وطال مرضه حتى عافه الجليس وأوحش منه الأنيس، وأخرج من بلده، وألقي على مزبلة خارجها، وانقطع عنه الناس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، كانت ترعى له حقه وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها، فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه وتعينه على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته. وضعف حالها، وقل ما لها حتى كانت تخدم الناس بالأجر لتطعمه، وتقوم بأوده رضي الله عنها وأرضاها، وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد وما يختص بها من المصيبة بالزوج، وضيق ذات اليد وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة والحرمة، فإنا لله وإنا إليه راجعون!.

وقد ثبت في الصحيح، أن رسول الله ﷺ قال: "أشد الناس بلاء الأنبياء. ثم الصالحون. ثم الأمثل فالأمثل"، وقال: "يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه".

وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: "أشد حتى أن المثل ليضرب بصبره عليه السلام، ويضرب المثل أيضا بما حصل له من أنواع البلايا.

وقد روي عن وهب بن منبه وغيره من علماء بني إسرائيل في قصة أيوب خبر طويل في كيفية ذهاب ماله وولده وبلائه في جسده والله أعلم بصحته.

وعن مجاهد انه قال: كان أيوب عليه السلام أول من أصابه الجدري.

وقد اختلفوا في مدة بلواه على أقوال فزعم وهب: أنه ابتلي سنين لا تزيد ولا تنقص. وقال أنس: ابتلى سبع سنين وأشهرا، وألقي على مزبلة لبني إسرائيل، تختلف الدواب في جسده حتى فرج الله عنه، وأعظم له الأجر، وأحسن الثناء عليه. وقال حميد: مكث في بلواه ثمانية عشرة سنة.

وقال السدي: تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب. فكانت امرأته تأتيه بالرماد تفرشه تحته فلما طال عليها، قالت: "يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك فقال قد عشت سبعين سنة صحيحا فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة". فجزعت من هذا الكلام وكانت تخدم الناس بالأجر وتطعم أيوب عليه السلام.

ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها، لعلمهم أنها امرأة أيوب، خوفا أن ينالهم من بلائه، أو تعديهم بمخالطته، فلما لم تجد أحدا يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير، فأتت به أيوب، فقال: من أين لك هذا؟ وأنكره، فقالت: خدمت به أناسا، فلما كان الغد لم تجد أحدا، فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به فأنكره أيضا، وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام؟ فكشفت عن رأسها خمارها، فلما رأى رأسها محلوقا، قال في دعائه: "رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين".

وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا جرير بن حازم، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: كان لأيوب أخوان فجاءا يوما، فلم يستطيعا أن يدنوا منه من ريحه، فقاما من بعيد، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا، فجزع أيوب من قولهما جزعا لم يجزع مثله من شيء قط، قال: "اللهم أن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعانا وأنا اعلم مكان جائع فصدقني) فصدق من السماء وهما يسمعان" ثم قال: "اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا أعلم مكان عار فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان" ثم قال: اللهم بعزتك، وخر ساجدا فقال: اللهم بعزتك لا ارفع رأسي أبدا، حتى تكشف عني، فما رفع رأسه حتى كشف عنه.

وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا: حدثنا يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب، أخبرني نافع بن يزيد، عن عقيل، عن الزهري، عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال: أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين. قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشر سنة لم يرحمه ربه فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له. فقال أيوب: لا ادري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق.

قال وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجع، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن {اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب}فاستبطأته فتلقته تنظر، وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان، فلما رأته، قالت: أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ فو الله القدير على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا قال: فإني أنا هو. قال: وكان له اندران، اندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين، فلما كانت أحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض".

هذا لفظ ابن جرير، وهكذا رواه بتمامه ابن حبان في "صحيحه" عن محمد بن الحسن بن قتيبة عن ابن وهب به. وهذا غريب رفعه جدا، والأشبه أن يكون موقوفا.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، أنبأنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: وألبسه الله حلة من الجنة فتنحى أيوب، وجلس في ناحية، وجاءت امرأته فلم تعرفه، فقالت: يا عبد الله هذا المبتلى الذي كان هاهنا، لعل الكلاب ذهبت به، أو الذئاب؟ وجعلت تكلمه ساعة. قال: ويحك أنا أيوب، قالت: أتسخر مني يا عبد الله؟ فقال: ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي.

قال ابن عباس: ورد الله عليه ماله وولده بأعيانهم ومثلهم معهم.

وقال وهب بن منبه: أوحى الله إليه: ( قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإن فيه شفاءك، وقرب عن صحابتك قربانا، واستغفر لهم، فإنهم قد عصوني فيك). رواه ابن أبي حاتم.

وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبو زرعة، حدثنا عمرو بن مرزوق، حدثنا همام، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النبي، ﷺ قال : "لما عافى الله أيوب عليه السلام أمطر عليه جرادا من ذهب، فجعل يأخذ بيده ويجعل في ثوبه، قال: فقيل له: يا أيوب أما تشبع؟ قال: يا رب ومن يشبع من رحمتك؟!".

وهكذا رواه الإمام أحمد عن أبي داود الطيالسي، وعبد الصمد عن همام عن قتادة به. ورواه ابن حبان في "صحيحه" عن عبد الله بن محمد الأزدي، عن اسحاق بن راهويه، عن عبد الصمد به. ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب، وهو على شرط الصحيح، فالله أعلم.

وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أرسل على أيوب رجل من جراد من ذهب، فجعل يقبضها في ثوبه، فقيل: يا أيوب ألم يكفك ما أعطيناك؟ قال: أي رب ومن يستغني عن فضلك!.

هذا موقوف. وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر مرفوعا.

وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه، فناداه ربه عز وجل يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك". رواه البخاري من حديث عبد الرزاق به.

وقوله {اركض برجلك} أي: اضرب الأرض برجلك. فامتثل ما أمر به، فأنبع الله له عينا باردة الماء، وأمر أن يغتسل فيها، ويشرب منها. فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض، الذي كان في جسده ظاهرا وباطنا وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة، وجمالا تاما ومالا كثيرا، حتى صب له من المال صبا مطرا عظيما جرادا من ذهب.

واخلف الله له أهله كما قال تعالى: {وآتيناه أهله ومثلهم معهم} فقيل: أحياهم الله بأعيانهم. وقيل: آجره فيمن سلف وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم، وجمع له شمله بكلهم في الدار الآخرة. وقوله: {رحمة من عندنا} أي رفعنا عنه شدته {فكشفنا ما به من ضر} رحمه منا به ورأفة وإحسانا {وذكرى للعابدين} أي تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو ولده، فله أسوة بنبي الله أيوب، حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه.

ومن فهم من هذا اسم امرأته فقال: هي "رحمة" من هذه الآية، فقد أبعد النجعة وأغرق النزع. وقال الضحاك عن ابن عباس رد الله إليها شبابها وزادها حتى ولدت له ستة وعشرون ولدا ذكرا.

وعاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية، ثم غيروا بعده دين إبراهيم. وقوله: {وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه السلام فيما كان من حلفه، ليضربن امرأته مائة سوط، فقيل: حلفه ذلك لبيعها ضفائرها. وقيل: لأنه عرضها الشيطان في صورة طبيب، يصف لها دواء لأيوب، فأتته فأخبرته فعرف انه الشيطان، فحلف ليضربها مائة سوط. فلما عافاه الله عز وجل أفتاه أن يأخذ ضغثا وهو كالعثكال الذي يجمع الشماريخ فيجمعها كلها ويضربها به ضربة واحدة ويكون هذا منزلا منزلة الضرب بمائة سوط ويبر ولا يحنث.

وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة المكابدة الصديقة البارة الراشدة رضي الله عنها.

ولهذا عقب الله الرخصة وعللها بقوله {إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} وقد استعمل كثير من الفقهاء هذه الرخصة في باب الأيمان والنذور، وتوسع آخرون فيها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الأيمان، وصدروه بهذه الآية الكريمة، وأتوا فيه بأشياء من العجائب والغرائب. وسنذكر طرفا من ذلك في كتاب الأحكام عند الوصول إليه إن شاء الله تعالى.

وقد ذكر ابن جرير وغيره من علماء التاريخ أن أيوب عليه السلام لما توفي كان عمره ثلاثا وتسعين سنة. وقيل: إنه عاش اكثر من ذلك.

وقد روى ليث عن مجاهد ما معناه أن الله يحتج يوم القيامة بسليمان عليه السلام على الأغنياء، وبيوسف عليه السلام على الأرقاء، وبأيوب عليه السلام على أهل البلاء. رواه ابن عساكر بمعناه.

وأنه أوصى إلى ولده حومل، وقام بالأمر بعده ولده بشر بن أيوب، وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه ذو الكفل فالله أعلم. ومات ابنه هذا وكان نبيا فيما يزعمون، وكان عمره من السنين خمسا وسبعين.

ولنذكر ها هنا قصة ذي الكفل، إذ قال بعضهم إنه ابن أيوب عليهما السلام وهذه هي.
قصة ذي الكفل الذي زعم قوم أنه ابن أيوب

قال الله تعالى بعد قصة أيوب في سورة الأنبياء {وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}. وقال تعالى بعد قصة أيوب أيضا في سورة ص {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار، إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار، وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار، واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار}.

فالظاهر من ذكره في القرآن العظيم بالثناء عليه مقرونا مع هؤلاء السادة الأنبياء أنه نبي عليه من ربه الصلاة والسلام وهذا هو المشهور.

وقد زعم آخرون أنه لم يكن نبيا وإنما كان رجلا صالحا وحكما مقسطا عادلا. وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم.

وروى ابن جرير وأبو نجيح عن مجاهد أنه لم يكن نبيا، وإنما كان رجلا صالحا.

وكان قد تكفل لبني قومه أن يكفيهم أمرهم، ويقضي بينهم بالعدل فيفعل فسمي ذا الكفل.

وروى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق داود بن أبي هند عن مجاهد أنه قال: لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى أنظر كيف يعمل؟ فجمع الناس فقال: من يتقبل لي بثلاث استخلفه: يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يغضب.

قال: فقام رجل تزدريه العين، فقال: أنا، فقال: أنت تصوم النهار، وتقوم الليل، ولا تغضب؟ قال: نعم. قال: فردهم ذلك اليوم، وقال مثلها اليوم الآخر، فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال أنا، فاستخلفه.

قال: فجعل إبليس يقول للشياطين: عليكم بفلان، فأعياهم ذلك. فقال دعوني وإياه فاتاه في صورة شيخ كبير فقير، وأتاه حين اخذ مضجعه للقائلة، وكان لا ينام الليل والنهار، إلا تلك النومة فدق الباب. فقال: من هذا؟ قال: شيخ كبير مظلوم. قال: فقام ففتح الباب فجعل يقص عليه، فقال إن بيني وبين قومي خصومة، وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا وجعل يطول عليه حتى حضر الرواح، وذهبت القائلة. وقال: إذا رحت فإنني آخذ لك بحقك.

فانطلق وراح. فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ، فلم يره، فقام يتبعه، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه. فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدق الباب، فقال: من هذا؟ فقال الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فاتني؟ فقال: إنهم اخبث قوم إذا عرفوا انك قاعد، قالوا: نحن نعطيك حقك، وإذا قمت جحدوني. قال: فانطلق فإذا رحت فأتني.

قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظر فلا يراه وشق عليه النعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعن أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام، فإني قد شق علي النوم. فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل وراءك وراءك، فقال: قد أتيته أمس، فذكرت له أمري، فقال: لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه، فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت، وإذا هو يدق الباب من داخل، قال فاستيقظ الرجل، فقال: يا فلان ألم آمرك؟ قال: أما من قبلي والله فلم تؤت، فانظر من أين أتيت؟

قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه؟ وإذا الرجل معه في البيت، فعرفه فقال: أعدو الله؟ قال: نعم أعييتني في كل شيء ففعلت كل ما ترى لأغضبك.

فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به! **

وقد روى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس قريبا من هذا السياق وهكذا روى عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وابن حجيرة الأكبر، وغيرهم من السلف نحو هذا.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الجماهر، أنبأنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن كنانة بن الأخنس قال سمعت الأشعري - يعني أبا موسى رضي الله عنه - وهو على هذا المنبر يقول: ما كان ذو الكفل نبيا، ولكن كان رجلا صالح يصلي كل يوم مائة صلاة، فتكفل له ذو الكفل من بعده يصلي كل يوم مائة صلاة، فسمى ذا الكفل .

ورواه ابن جرير من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال أبو موسى الأشعري فذكره منقطعا.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعد مولى طلحة، عن ابن عمر قال: سمعت من رسول الله ﷺ حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عد سبع مرار - ، لم أحدث به ولكني قد سمعته أكثر من ذلك. قال: كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته، أرعدت وبكت، فقال لها: ما يبكيك أأكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عمل لم أعمله قط، وإنما حملتني إليه الحاجة، قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قط. ثم نزل فقال: اذهبي بالدنانير لك. ثم قال: والله لا يعصي الله الكفل أبدا، فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر الله للكفل!

ورواه الترمذي من حديث الأعمش به وقال حسن، وذكر أن بعضهم رواه فوقفه على ابن عمر.

فهو حديث غريب جدا وفي إسناده نظر فان سعدا هذا قال أبو حاتم: لا أعرفه إلا بحديث واحد. ووثقه ابن حبان، ولم يرو عنه سوى عبد الله بن عبد الله الرازي هذا. فالله أعلم.

وان كان محفوظا فليس هو ذا الكفل وإنما لفظ الحديث الكفل من غير إضافة فهو رجل آخر غير المذكور في القرآن. فالله تعالى أعلم.



باب ذكر أمم أهلكوا بعامة

وذلك قبل نزول التوراة بدليل قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} الآية.

كما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من حديث عوف الأعرابي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء أو من الأرض بعد ما أنزلت التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخوا قردة ألم تر أن الله تعالى يقول: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى}.

ورفعه البزار في رواية له. والأشبه والله أعلم وقفه، فدل على أن كل أمة أهلكت بعامة قبل موسى عليه السلام.في أخطاء إملائيه لابد من تصوير الكتاب ورفعه لإن في أخطاء بالغه الخطوره الاسلام لايمكن ان يتزور فيه قصص الانبياء
فمنهم أصحاب الرس

قال الله تعالى في سورة الفرقان {وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا، وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا} وقال الله تعالى في صورة ق: {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد}.

وهذا السياق والذي قبله يدل على أنهم أهلكوا ودمروا، وتبروا وهو الهلاك.

وهذا يرد اختيار ابن جرير من أنهم أصحاب الأخدود الذين ذكروا في سورة البروج، لأن أولئك عند بن إسحاق وجماعة كانوا بعد المسيح عليه السلام وفيه نظر أيضا.

وروى ابن جرير قال: قال ابن عباس: أصحاب الرس أهل قرية من قرى ثمود.

وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في أول تاريخه عند ذكر بناء دمشق عن تاريخ أبي القاسم عبد الله بن عبد الله بن جرداد وغيره أن أصحاب الرس كانوا بحضور، فبعث الله إليهم نبيا يقال له: حنظلة بن صفوان، فكذبوه وقتلوه، فسار عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح بولده من الرس، فنزل الأحقاف، وأهلك الله أصحاب الرس، وانتشروا في اليمن كلها، وفشوا مع ذلك في الأرض كلها، حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح دمشق، وبنى مدينتها، وسماها جيرون، وهي ارم ذات العماد، وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الحلود بن عاد إلى عاد، يعني أولاد عاد بالأحقاف، فكذبوه فأهلكم الله عز وجل.

فهذا يقتضي أن أصحاب الرس قبل عاد بدهور متطاولة فالله أعلم.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي عاصم عن أبيه عن شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس قال: الرس بئر بأذربيجان. وقال الثوري عن أبي بكر عن عكرمة قال: الرس بئر رسوا فيها نبيهم، أي دفنوه فيها.

قال ابن جريج قال عكرمة: أصحاب الرس بفلج، وهم أصحاب يس. وقال قتادة: فلج من قرى اليمامة.

قلت: فإن كانوا أصحاب ياسين كما زعمه عكرمة فقد أهلكوا بعامة، قال الله تعالى في قصتهم: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} وستأتي قصتهم بعد هؤلاء.

وإن كانوا غيرهم وهو الظاهر فقد اهلكوا أيضا وتبروا. وعلى كل تقدير فينافي ما ذكره ابن جرير.

وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن النقاش أن أصحاب الرس كانت لهم بئر ترويهم وتكفي أرضهم جميعها، وكان لهم ملك عادل حسن السيرة، فلما مات وجدوا عليه وجدا عظيما، فلما كان بعد أيام تصور لهم الشيطان في صورته، وقال: إني لم أمت، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا أشد الفرح وأمر بضرب حجاب بينهم وبينه، وأخبرهم أنه لا يموت أبدا، فصدق به أكثرهم وافتتنوا به وعبدوه. فبعث الله فيهم نبيا فأخبرهم أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب، ونهاهم عن عبادته، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.

قال السهيلي: وكان يوحى إليه في النوم، وكان اسمه حنظلة بن صفوان، فعدوا عليه فقتلوه، وألقوه في البئر، فغار ماؤها، وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم وانقطعت ثمارهم، وخربت ديارهم، وتبدلوا بعد الأنس بالوحشة وبعد الاجتماع بالفرقة وهلكوا عن أخرهم، وسكن في مساكنهم الجن والوحوش، فلا يسمع ببقاعهم إلا عزيف الجن وزئير الأسود وصوت الضباع.

فأما ما رواه - أعني ابن جرير - عن محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله ﷺ: "إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود" وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك العبد الأسود. ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر أصم، قال: فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاما وشرابا، ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله عليها ويدلى إليه طعامه وشرابه ثم يردها، كما كانت.

قال: فكان كذلك ما شاء الله أن يكون. ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع، فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحتملها وجد سنة، فاضطجع ينام فضرب الله على أذنه سبع سنين نائما، ثم إنه هب فتمطى، وتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنه هب واحتمل حزمته، ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع. ثم إنه ذهب إلى الحفيرة إلى موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده، وقد كان بدا لقومه فيه بداء، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه.

قال فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون له: ما ندري حتى قبض الله النبي عليه السلام، وهب الأسود من نومته بعد ذلك، فقال رسول الله ﷺ "إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة".

فإنه حديث مرسل ومثله فيه نظر. ولعل بسط قصته من كلام محمد بن كعب القرظي والله أعلم.

ثم قد رده ابن جرير نفسه وقال: لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب الرس المذكورون في القرآن، قال: لأن الله أخبر عن أصحاب الرس انه أهلكهم، وهؤلاء قد بدا لهم فآمنوا بنبيهم. اللهم إلا أن يكون حدثت لهم أحداث، آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم والله أعلم. ثم اختار أنهم أصحاب الأخدود، وهو ضعيف لما تقدم ولما ذكر في قصة أصحاب الأخدود حيث توعدوا بالعذاب في الآخرة إن لم يتوبوا ولم يذكر هلاكهم، وقد صرح بهلاك أصحاب الرس والله تعالى أعلم.
قصة قوم يس

ومنهم أصحاب القرية أصحاب يس قال الله تعالى: {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون، قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمان من شيء إن أنتم إلا تكذبون، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون، وما علينا إلا البلاغ المبين، قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم، قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون، وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون، وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون، أأتخذ من دونه آلهة إن يردني الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون، إني إذا لفي ضلال مبين، إني آمنت بربكم فاسمعوني، قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين، وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين، إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون}.

اشتهر عن كثير من السلف والخلف أن هذه القرية أنطاكية. رواه ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار ووهب بن منبه، وكذا روي عن بريدة بن الخطيب وعكرمة وقتادة والزهري وغيرهم، قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب، إنهم قالوا: وكان لها ملك اسمه انطيخس بن انطيخس، وكان يعبد الأصنام.

فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صادق ومصدوق وشلوم فكذبهم.

وهذا ظاهر انهم رسل من الله عز وجل. وزعم قتادة أنهم كانوا رسلا من المسيح. وكذا قال ابن جرير عن وهب عن بن سليمان عن شعيب الجبائي، كان اسم المرسلين الأولين شمعون ويوحنا واسم الثالث بولس والقرية أنطاكية.

وهذا القول ضعيف جدا، لأن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت.

ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها بتاركة النصارى. وهن أنطاكية، والقدس، وإسكندرية، ورومية. ثم بعدها القسطنطينية، ولم يهلكوا. وأهل هذه القرية المذكورة في القرآن اهلكوا، كما قال في آخر قصتها، بعد قتلهم صديق المرسلين: {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون} لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن بعثوا إلى أهل أنطاكية قديما فكذبوهم، وأهلكهم الله، ثم عمرت بعد ذلك. فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم، فلا يمنع هذا والله أعلم.

فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة أصحاب المسيح فضعيف لما تقدم، ولأن ظاهر سياق القرآن يقتضي أن هؤلاء الرسل من عند الله.

قال الله تعالى: {واضرب لهم مثلا} يعني لقومك يا محمد {أصحاب القرية} يعني المدينة { إذ جاءها المرسلون، إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث} أي أيدناهما بثالث في الرسالة {فقالوا إنا إليكم مرسلون}، فردوا عليهم بأنهم بشر مثلهم، كما قالت الأمم الكافرة لرسلهم، يستبعدون أن يبعث الله نبيا بشريا فأجابوهم بأن الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبنا عليه لعاقبنا وأنتقم منا أشد الانتقام {وما علينا إلا البلاغ المبين} أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء {قالوا إنا تطيرنا بكم} أي تشائمنا بما جئتمونا به {لئن لم تنتهوا لنرجمنكم} بالمقال، وقيل بالفعال، ويؤيد الأول قوله {وليمسنكم منا عذاب أليم} توعدوهم بالقتل والإهانة.

{قالوا طائركم معكم} أي مردود عليكم {أئن ذكرتم} أي بسبب أنا ذكرناكم بالهدى ودعوناكم إليه توعدتمونا بالقتل والإهانة {بل أنتم قوم مسرفون} أي لا تقبلون الحق ولا تريدونه.

وقوله تعالى {وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى} يعني لنصرة الرسل وإظهار الإيمان بهم {قال يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون} أي يدعونكم إلى الحق المحض بلا أجرة ولا جعالة.

ثم دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ونهاهم عن عبادة ما سواه مما لا ينفع شيئا لا في الدنيا ولا في الآخرة {إني إذا لفي ضلال مبين} أي إن تركت عبادة الله وعبدت معه ما سواه.

ثم قال مخاطبا للرسل {إني آمنت بربكم فاسمعوني} قيل: فاستمعوا مقالتي واشهدوا لي بها عند ربكم. وقيل: معناه فاسمعوا يا قومي إيماني برسل الله جهرة. فعند ذلك قتلوه. قيل رجما، وقيل عصا، وقيل وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه.

وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال وطئوه بأرجلهم حتى أخرجوا قصبته.

وقد روى الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز كان اسم هذا الرجل "حبيب بن مرى". ثم قيل: كان نجارا وقيل حباكا، وقيل إسكافا، وقيل قصارا، وقيل كان يتعبد في غار هناك. فالله أعلم.

وعن ابن عباس: كان حبيب النجار قد أسرع فيه الجذام وكان كثير الصدقة، فقتله قومه. ولهذا قال تعالى: {ادخل الجنة} يعني لما قتله قومه ادخله الله الجنة، فلما رأى فيها من النضرة والسرور {قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} يعني ليؤمنوا بما آمنت به فيحصل لهم ما حصل لي.

قال ابن عباس نصح قومه في حياته {يا قوم اتبعوا المرسلين} وبعد مماته في قوله {قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} رواه ابن أبي حاتم، وكذلك قال قتادة لا يلقى المؤمن إلا ناصحا، لا يلقى غاشا لما عاين ما عاين من كرامة الله {يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله، وما هو عليه.

قال قتادة: فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله. {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون}.

وقوله تعالى: {وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين} أي وما احتجنا في الانتقام منهم إلى إنزال جند من السماء عليهم.

هذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود. قال مجاهد وقتادة، وما أنزل عليهم جندا، أي رسالة أخرى. قال ابن جرير: والأول أولى.

قلت: وأقوى، ولهذا قال: {وما كنا منزلين} أي وما كنا نحتاج في الانتقام إلى هذا حين كذبوا رسلنا وقتلوا ولينا {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون}.

قال المفسرون: بعث الله إليهم جبريل عليه السلام، فأخذ بعضادتي الباب الذي لبلدهم ثم صاح بهم صيحة واحدة، فإذا هم خامدون. أي قد أخمدت أصواتهم وسكنت حركاتهم ولم يبق منهم عين تطرف.

وهذا كله مما يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية، لأن هؤلاء أهلكوا بتكذيبهم رسل الله إليهم، وأهل انطاكية آمنوا واتبعوا رسل المسيح من الحواريين، إليهم، فلهذا قيل: إن انطاكية أول مدينة آمنت بالمسيح.

فأما الحديث الذي رواه الطبراني من حديث حسين الأشقر، عن سفيان بن عيينة عن ابن نجيح، عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي ﷺ: "السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب يس، والسابق إلى محمد علي بن أبي طالب" فإنه حديث لا يثبت؛ لأن حسينا هذا متروك شيعي من الغلاة، وتفرده بهذا مما يدل على ضعفه بالكلية. والله أعلم.
قصة يونس عليه السلام

قال الله تعالى في سورة يونس: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين}.

وقال تعالى في سورة الأنبياء: {وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين}.

وقال تعالى في سورة والصافات: {وإن يونس لمن المرسلين، إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم، فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون، فنبذناه بالعراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين، وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حين}.

وقال تعالى في سورة ن: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم، لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين}.

قال أهل التفسير: بعث الله يونس عليه السلام إلى أهل (نينوى) من أرض الموصل، فدعاهم إلى الله عز وجل، فكذبوه وتمردوا على كفرهم وعنادهم، فلما طال ذلك عليه من أمرهم، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث.

قال ابن مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد من السلف والخلف: فلما خرج من بين ظهرانيهم وتحققوا نزول العذاب بهم قذف الله في قلوبهم التوبة والإنابة وندموا على ما كان منهم إلى نبيهم، فلبسوا المسوح وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عجوا إلى الله عز وجل وصرخوا وتضرعوا إليه وتمسكنوا لديه، وبكى الرجال والنساء والبنون والبنات والأمهات، وجأرت الإنعام والدواب والمواشي، فرغت الأبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، وكانت ساعة عظيمة هائلة.

فكشف الله العظيم بحوله وقوته ورأفته ورحمته عنهم العذاب الذي كان قد اتصل بهم سببه، ودار على رؤوسهم كقطع الليل المظلم.

ولهذا قال تعالى {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها} أي هلا وجدت فيما سلف من القرون قرية آمنت بكمالها فدل على أنه لم يقع ذلك. بل كما قال تعالى {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون}. وقوله {إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين} أي آمنوا بكمالهم.

وقد اختلف المفسرون هل ينفعهم هذا الإيمان في الدار الآخرة فينقذهم من العذاب الأخروي كما أنقذهم من العذاب الدنيوي؟ على قولين:

الأظهر من السياق: نعم. والله أعلم، كما قال تعالى: {لما آمنوا} وقال تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا فمتعناهم إلى حين}، وهذا المتاع إلى حين لا ينفي أن يكون معه غيره من رفع العذاب الأخروي والله أعلم.

وقد كانوا مائة ألف لا محالة، واختلفوا في الزيادة فعن مكحول عشرة آلاف. وروى الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث زهير عمن سمع أبا العالية: حدثني أبي بن كعب أنه سأل رسول الله ﷺ عن قوله {وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} قال يزيدون عشرين ألفا، فلولا هذا الرجل المبهم، لكان هذا الحديث فاصلا في هذا الباب.

وعن ابن عباس كانوا مائة ألف وثلاثين ألفا، وعنه وبضعة وثلاثين ألفا. وعنه وبضعة وأربعين ألفا. وقال سعيد بن جبير: كانوا مائة ألف وسبعين ألفا.

واختلفوا هل كان إرساله إليهم قبل الحوت أو بعده؟ أو هما أمتان؟ على ثلاثة أقوال هي مبسوطة في التفسير.

والمقصود أنه عليه السلام لما ذهب مغاضبا بسبب قومه ركب سفينة في البحر فلجت بهم، واضطربت وماجت بهم وثقلت بما فيها، وكادوا يغرقون على ما ذكره المفسرون.

قالوا: فاشتوروا فيما بينهم، على أن يقترعوا، فمن وقعت عليه القرعة ألقوه من السفينة ليتخففوا منه.

فلما اقترعوا وقعت القرعة على نبي الله يونس، فلم يسمحوا به، فأعادوها ثانية فوقعت عليه أيضا، فشمر ليخلع ثيابه ويلقي بنفسه فأبوا عليه ذلك. ثم أعادوا القرعة ثالثة فوقعت عليه أيضا لما يريده الله به من الأمر العظيم.

قال الله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين، إذ أبق إلى الفلك المشحون، فساهم فكان من المدحضين، فالتقمه الحوت وهو مليم} وذلك أنه لما وقعت عليه القرعة ألقي في البحر، وبعث الله عز وجل حوتا عظيما من البحر الأخضر فالتقمه، وأمره الله تعالى أن لا يأكل له لحما، ولا يهشم له عظما، فليس لك برزق فأخذه فطاف به البحار كلها. وقيل: إنه ابتلع ذلك الحوت حوت آخر أكبر منه. قالوا: ولما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات، فحرك جوارحه فتحركت، فإذا هو حي، فخر لله ساجدا، وقال: يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يعبدك أحدا في مثله.

وقد اختلفوا في مقدار لبثه في بطنه. فقال مجالد عن الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية. وقال قتادة: مكث فيه ثلاثا وقال جعفر الصادق، سبعة أيام ويشهد له شعر أمية بن أبي الصلت:

وأنت بفضل منك نجيت يونسا ** * وقد بات في أضعاف حوت لياليا

وقال سعيد بن أبي الحسن وأبو مالك: مكث في جوفه أربعين يوما. والله أعلم كم مقدار ما لبث فيه.

والمقصود أنه لما جعل الحوت يطوف به في قرار البحار اللجية، ويقتحم به لجج الموج الأجاجي، فسمع تسبيح الحيتان للرحمن، وحتى سمع تسبيح الحصى لفالق الحب والنوى، ورب السماوات السبع والأرضين السبع، وما بينهما وما تحت الثرى. فعند ذلك وهنالك قال ما قال بلسان الحال والمقال كما اخبر عنه ذو العزة والجلال الذي يعلم السر والنجوى، ويكشف الضر والبلوى، سامع الأصوات وان ضعفت، وعالم الخفيات وإن دقت، ومجيب الدعوات وإن عظمت حيث قال في كتابه المبين المنزل على رسوله الأمين وهو أصدق القائلين ورب العالمين وإله المرسلين: {وذا النون إذ ذهب} أي إلى أهله {مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} {فظن أن لن نقدر عليه} أن نضيق. وقيل معناه نقدر من التقدير وهي لغة مشهورة قدر وقدر كما قال الشاعر.

فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى * تباركت؛ ما يقدر يكن، فلك الأمر

{فنادى في الظلمات} قال ابن مسعود وابن عباس وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والضحاك: ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل.

وقال سالم بن أبي الجعد: ابتلع الحوت حوت آخر فصار ظلمة الحوتين مع ظلمة البحر.

وقوله تعالى: {فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون} قيل معناه لولا أنه سبح الله هنالك، وقال ما قال من التهليل والتسبيح والاعتراف لله بالخضوع والتوبة إليه والرجوع إليه للبث هنالك إلى يوم القيامة. ولبعث من جوف ذلك الحوت. هذا معنى ما روي عن سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه.

وقيل معناه {فلولا أنه كان} من قبل أخذ الحوت له {من المسبحين} أي المطيعين المصلين الذاكرين الله كثيرا. قاله الضحاك بن قيس وابن عباس وأبو العالية ووهب بن منبه وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وعطاء بن السائب والحسن البصري وقتادة وغير واحد. واختاره ابن جرير.

ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال له: "يا غلام إني معلمك كلمات: احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".

وروى ابن جرير في "تفسيره" والبزار في "مسنده" من حديث محمد بن إسحاق عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: "لما أراد الله حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت: أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما". فلما انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت: إن هذا تسبيح دواب البحر. قال فسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة! قال: ذلك عدى يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم. قال: فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله {وهو سقيم}.

هذا لفظ ابن جرير إسنادا ومتنا. ثم قال البزار: لا نعلمه يروى عن النبي ﷺ إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد كذا قال.

وقد قال ابن أبي حاتم "تفسيره": حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي وهب، حدثنا عمي، حدثني أبو صخر، أن يزيد الرقاشي قال سمعت أنس بن مالك ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله ﷺ يقول أن يونس النبي عليه السلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال "اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" فأقبلت هذه الدعوة تحت العرش، فقالت الملائكة يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة. فقال: أما تعرفون ذاك؟ قالوا : لا يا رب ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة؟ قالوا: يا ربنا أو لا ترحم ما كان يصنعه في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال: بلى. فأمر الحوت فطرحه في العراء". ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب به.

زاد ابن أبي حاتم: قال أبو صخر حميد بن زياد فأخبرني ابن قسيط وأنا أحدثه هذا الحديث، أنه سمع أبا هريرة يقول: طرح بالعراء وأنبت الله عليه اليقطينة. وقلنا: يا أبا هريرة وما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء. قال أبو هريرة: وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشش الأرض. أو قال: هشاش الأرض. قال فتفسخ عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكره، حتى نبت.

وقال أمية بن أبي الصلت في ذلك بيتا من شعره:

فأنبت يقطينا عليه برحمة * من الله لولا الله أصبح ضاويا

وهذا غريب أيضا من هذا الوجه. ويزيد الرقاشي ضعيف، ولكن يتقوى بحديث أبي هريرة المتقدم؛ كما يتقوى ذاك بهذا، والله أعلم.

وقد قال تعالى: {فنبذناه} أي ألقيناه {بالعراء} وهو المكان القفر الذي ليس فيه شيء من الأشجار بل هو عار منها {وهو سقيم} أي ضعيف البدن. قال ابن مسعود: كهيئة الفرخ ليس عليه ريش. وقال ابن عباس والسدي وابن زيد: كهيئة الصبي حين يولد وهو المنفوس ليس عليه شيء {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} قال ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير ووهب بن منبه وهلال بن يساف وعبد الله بن طاووس والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخرساني وغير واحد هو القرع.

قال بعض العلماء في إنبات القرع عليه حكم جمة. منها أن ورقه في غاية النعومة وكثير وظليل ولا يقربه ذباب، ويؤكل ثمره من أول طلوعه إلى آخره نيا ومطبوخا، وبقشره وببزره أيضا. وفيه نفع كثير وتقوية للدماغ وغير ذلك.

وتقدم كلام أبي هريرة في تسخير الله تعالى له تلك الأروية التي كانت ترضعه لبنها، وترعى في البرية وتأتيه بكرة وعشية. وهذا من رحمة الله به ونعمته عليه وإحسانه إليه ولهذا قال تعالى: {فاستجبنا له ونجيناه من الغم} أي الكرب والضيق الذي كان فيه {وكذلك ننجي المؤمنين}. أي وهذا صنيعنا بكل من دعانا واستجار بنا.

قال ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكلاعي، حدثنا يحيى بن صالح، حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن، حدثني بشر بن منصور، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال سمعت سعد بن مالك - وهو ابن أبي وقاص يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى" قال: فقلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة، أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامة إذا دعوا بها. ألم تسمع قول الله تعالى: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين} فهو شرط من الله لمن دعاه به.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر عن كثير بن زيد، عن المطلب بن حنطب قال أبو خالد: أحسبه عن مصعب - يعني ابن سعد - عن سعد، قال: قال رسول الله ﷺ: "من دعا بدعاء يونس أستجيب له" قال أبو سعيد الأشج: يريد به: {وكذلك ننجي المؤمنين} وهذان طريقان عن سعد.

وثالث أحسن منهما: وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عمير حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سعد، حدثني والدي محمد، عن أبيه سعد - وهو ابن أبي وقاص رضي الله عنه - قال: مررت بعثمان بن عفان في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني، ثم لم يردد علي السلام فأتيت عمر بن الخطاب فقلت يا أمير المؤمنين هل حدث في الإسلام شيء؟ قال: لا، وما ذاك؟ قلت: لا، إلا أني مررت بعثمان آنفا في المسجد فسلمت عليه فملأ عينيه مني ثم لم يرد علي السلام. قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال ما منعك أن لا تكون رددت على أخيك السلام؟ قال: ما فعلت. قال سعد: قلت بلى، حتى حلف وحلفت. قال: ثم إن عثمان ذكر فقال بلى واستغفر الله وأتوب إليه إنك مررت بي آنفا وأنا احدث نفسي بكلمة سمعتها من رسول الله ﷺ: لا والله ما ذكرتها قط ألا تغشى بصري وقلبي غشاوة. قال سعد فأنا أنبئك بها إن رسول الله ﷺ ذكر لنا أول دعوة ثم جاء أعرابي فشغله حتى قام رسول الله ﷺ: فاتبعته فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله، ضربت بقدمي الأرض فالتفت إلي رسول الله ﷺ فقال: "من هذا؟ أبو إسحاق" قال: قلت نعم يا رسول الله، قال: خه؟ قلت: لا والله إلا أنك ذكرت لنا أول دعوة. ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك. قال: نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت{لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له". ورواه الترمذي والنسائي من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد به.
ذكر فضل يونس عليه السلام

قال الله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين} وذكره تعالى في جملة الأنبياء الكرام في سورتي النساء والأنعام عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: "لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى". ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري به.

وقال البخاري أيضا: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن ابن عباس، عن النبي ﷺ قال: "ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى ونسبه إلى أبيه".

ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث شعبة به. قال شعبة فيما حكاه أبو داود عنه: لم يسمع قتادة من أبي العالية سوى أربعة أحاديث، هذا أحدها.

وقد رواه الإمام أحمد عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد عن يونس بن مهران، عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: "وما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى". تفرد به أحمد.

ورواه الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن الحسن بن كيسان، حدثنا عبد الله بن رجاء، أنبأنا إسرائيل، عن أبي يحيى العتاب، عن مجاهد، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: "لا ينبغي لأحد أن يقول أنا عند الله خير من يونس بن متى". إسناده جيد ولم يخرجوه.

وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى". وكذا رواه مسلم من حديث شعبة به.

وفي البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن الفضل، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة في قصة المسلم الذي لطم وجه اليهودي حين قال لا والذي اصطفى موسى على العالمين.

قال البخاري في آخره: ولا أقول: إن أحدا أفضل من يونس بن متى وهذا اللفظ يقوي أحد القولين من المعنى: لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى أي ليس لأحد أن يفضل نفسه على يونس.

والقول الآخر لا ينبغي لأحد أن يفضلني على يونس بن متى. كما قد ورد في بعض الأحاديث، لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى. وهذا من باب الهضم والتواضع منه صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله والمرسلين.

نهاية الجزء الأول من (قصص الأنبياء لابن كثير)

ويتلوه الجزء الثاني وأوله (باب : قصة موسى الكليم) بعون الله وتوفيقه.
تصنيف:
قصص الأنبياء لابن كثير

قصص الانبياء لان كثير ج1...7...........ثم هو أشرف أولي العزم بعد محمد ﷺ.

وقال عبيد بن عمير: كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يوما يلتمس إنسانا يضيفه فلم يجد أحدا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما، فقال: يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال: دخلتها بإذن ربها. قال: ومن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبد من عباده، أبشره بأن الله قد اتخذه خليلا، قال: من هو؟ فو الله إن أخبرتني به، ثم كان بأقصى البلاد لآتينه، ثم لا أبرح له جارا حتى يفرق بيننا الموت، قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا! قال: نعم. قال: فبم اتخذني ربي خليلا؟ قال: بأنك تعطي الناس ولا تسألهم. رواه ابن أبي حاتم.

وقد ذكره الله تعالى في القرآن كثيرا في غير ما موضع بالثناء عليه، والمدح له، فقيل: إنه مذكور في خمسة وثلاثين موضعا، منها خمسة عشر في البقرة وحدها.

وهو أحد أولي العزم الخمسة المنصوص على أسمائهم تخصيصا، من بين سائر الأنبياء في آيتي الأحزاب والشورى وهما قوله تعالى: {أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا} وقوله: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} الآية.
ثم هو أشرف أولي العزم بعد محمد ﷺ.

وهو الذي وجده عليه السلام في السماء السابعة، مسندا ظهره بالبيت المعمور، الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم. وما وقع في حديث شريك ابن أبي نمير عن أنس في حديث الإسراء "من أن إبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة، فمما انتقد على شريك في هذا الحديث. والصحيح الأول.

وقال أحمد: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن". تفرد به أحمد.

ثم مما يدل على أن إبراهيم أفضل من موسى الحديث الذي قال فيه: "وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم". رواه مسلم، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.

وهذا هو المقام المحمود الذي أخبر عنه صلوات الله وسلامه عليه بقوله: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر" ثم ذكر استشفاع الناس بآدم ثم بنوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى فكلهم يحيد عنها حتى يأتوا محمدا ﷺ فيقول: "أنا لها، أنا لها" الحديث بتمامه.

وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبيد الله، حدثني سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال : أكرمهم أتقاهم" فقالوا ليس عن هذا نسألك قال "فأكرم الناس يوسف نبي الله، ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله". قالوا ليس عن هذا نسألك. قال " فعن معادن العرب تسألونني"؟ قالوا نعم قال "فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".

وهكذا رواه البخاري في مواضع أخر، ومسلم والنسائي من طرق، عن يحيى بن سعيد القطان، عن عبيد الله - وهو ابن عمر - العمري به.

ثم قال البخاري: قال أبو أسامة ومعتمر عن عبيد الله، عن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ.

قلت: وقد أسنده في موضع آخر من حديثهما، وحديث عبدة بن سليمان. والنسائي من حديث محمد بن بشر، أربعتهم عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ ولم يذكروا أباه.

وقال أحمد: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ قال: "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله". تفرد به أحمد.

وقال البخاري: حدثنا عبدة، حدثنا عبد الصمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ قال: "الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم". تفرد به من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن أبيه، عن ابن عمر به.

فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا يحيى، عن سفيان، حدثني مغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن النبي ﷺ: "يحشر الناس عراة عزلا، فأول من يكسى إبراهيم عليه السلام" ثم قرأ {كما بدأنا أول خلق نعيده} فأخرجاه في "الصحيحين" من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج كلاهما عن مغيرة بن النعمان النخعي الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.

وهذه الفضيلة المعينة لا تقتضي الأفضلية بالنسبة إلى ما قابلها مما ثبت لصاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون.

وأما الحديث الآخر الذي قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع وأبو نعيم، حدثنا سفيان - هو سفيان هو الثوري - عن مختار بن فلفل، عن أنس بن مالك، قال: قال رجل للنبي ﷺ يا خير البرية فقال "ذاك إبراهيم" فقد رواه مسلم من حديث الثوري وعبد الله بن إدريس، وعلي بن مسهر ومحمد بن فضيل، أربعتهم عن المختار بن فلفل. وقال الترمذي: حسن صحيح.

وهذا من باب الهضم والتواضع مع والده الخليل عليه السلام، كما قال: "لا تفضلوني على الأنبياء". وقال: "لا تفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشا بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟".

وهذا كله لا ينافي ما ثبت بالتواتر عنه صلوات الله وسلامه عليه من أنه سيد ولد آدم يوم القيامة، وكذلك حديث أبي بن كعب في "صحيح مسلم" "وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم".

ولما كان إبراهيم عليه السلام أفضل الرسل، وأولى العزم بعد محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، أمر المصلي أن يقول في تشهده: ما ثبت في "الصحيحين"، من حديث كعب بن عجرة وغيره، قال: قلنا: "يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ "قال: قالوا: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".

وقال الله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى}. قالوا: وفي جميع ما أمر به، وقام بجميع خصال الإيمان وشعبه، وكان لا يشغله مراعاة الأمر الجليل عن القيام بمصلحة الأمر القليل، ولا ينسيه القيام بأعباء المصالح الكبار عن الصغار.

قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن ابن طاووس عن أبيه، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والسواك، والاستنشاق، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء". رواه ابن أبي حاتم.

وقال: وروى عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك.

قلت: وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط".

وفي "صحيح مسلم" وأهل السنن من حديث وكيع، عن زكريا بن أبي زائدة، عن مصعب بن شيبة العبدري المكي الحجبي، عن طلق بن حبيب العتري، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: "عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء يعني الاستنجاء".

وسيأتي، في ذكر مقدار عمره، الكلام على الختان.

والمقصود أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يشغله القيام بالإخلاص لله عز وجل، وخشوع العبادة العظيمة عن مراعاة مصلحة بدنه، وإعطاء كل عضو ما يستحقه من الإصلاح والتحسين، وإزالة ما يشين من زيادة شعر أو ظفر أو وجود قلح، أو وسخ.

فهذا من جملة قوله تعالى في حقه من المدح العظيم {وإبراهيم الذي وفى}.
ذكر قصره في الجنة

قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن سنان القطان الواسطي ومحمد بن موسى القطان قال: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك عن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: "إن في الجنة قصرا، أحسبه قال من لؤلؤة، ليس فيه فصم، ولا وهى، أعده الله لخليله إبراهيم عليه السلام نزلا" قال البزار: وحدثنا أحمد بن جميل المروزي، حدثنا النضر بن شميل، حدثنا حماد بن سلمة، عن سماك عن عكرمة، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بنحوه.

ثم قال: وهذا الحديث لا نعلم من رواه عن حماد بن سلمة فأسنده إلا يزيد بن هارون والنضر بن شميل، وغيرهما يرويه موقوفا. قلت: لولا هذه العلة لكان على شرط الصحيح. ولم يخرجوه.
ذكر صفة إبراهيم عليه السلام

قال الإمام أحمد : حدثنا يونس وحجين قالا: حدثنا الليث، عن أبي الزبير، عن جابر عن رسول الله ﷺ أنه قال: "عرض علي الأنبياء فإذا موسى ضرب من الرجال كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى بن مريم فإذا أقرب من رأيت به شبها عروة بن مسعود ورأيت إبراهيم فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية". تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه وبهذا اللفظ.

وقال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل، عن عثمان - يعني ابن المغيرة - عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: "رأيت عيسى بن مريم وموسى وإبراهيم فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر - وأما موسى فآدم جسيم. قالوا له فإبراهيم قال انظروا إلى صاحبكم يعني نفسه".

وقال البخاري: حدثنا بنان بن عمرو، حدثنا النضر، أنبأنا ابن عون، عن مجاهد أنه سمع ابن عباس ، وذكروا له الدجال وأنه مكتوب بين عينيه كافر أو"ك ف ر" فقال: لم أسمعه، ولكنه قال: قال ﷺ: "أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فجعد آدم على جمل أحمر، مخطوم بخلبة، كأني أنظر إليه انحدر في الوادي".

ورواه البخاري أيضا ومسلم، عن محمد بن المثنى، عن بن أبي عدي، عن عبد الله بن عون به. وهكذا رواه البخاري أيضا في كتاب الحج وفي اللباس، ومسلم، جميعا عن محمد بن المثنى عن ابن أبي عدي، عن عبد الله بن عون به.
ذكر وفاة إبراهيم وما قيل في عمره

ذكر ابن جرير في "تاريخه": أن مولده كان في زمن النمرود بن كنعان وهو فيما قيل: الضحاك الملك المشهور، الذي يقال: إنه ملك ألف سنة، وكان في غاية الغشم والظلم.

وذكر بعضهم: أنه من بني راسب، الذي بعث إليهم نوح عليه السلام، وأنه كان إذ ذاك ملك الدنيا. وذكروا أنه طلع نجم أخفى ضوء الشمس والقمر، فهاك ذلك أهل الزمان وفزع النمرود. فجمع الكهنة والمنجمين وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: يولد مولود في رعيتك يكون زوال ملكك على يديه. فأمر عند ذلك بمنع الرجال عن النساء، وأن يقتل المولودون من ذلك الحين. فكان مولد إبراهيم الخليل في ذلك الحين فحماه الله عز وجل وصانه من كيد الفجار، شب شبابا باهرا، وأنبته الله نباتا حسنا، حتى كان من أمره ما تقدم.

وكان مولده بالسوس. وقيل: ببابل، وقيل: بالسواد من ناحية كوثى وتقدم عن ابن عباس: أنه ولد ببرزة شرقي دمشق، فلما أهلك الله نمرود على يديه، هاجر إلى حران، ثم إلى أرض الشام، وأقام ببلاد إيليا كما ذكرنا، وولد له إسماعيل وإسحاق، وماتت سارة قبله بقرية حبرون، التي في أرض كنعان، ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة، فيما ذكر أهل الكتاب، فحزن عليها إبراهيم عليه السلام ورثاها رحمها الله، واشترى من رجل من بني حث، يقال له عفرون بن صخر مغارة بأربع مائة مثقال، ودفن فيها سارة هنالك.

قالوا: ثم خطب إبراهيم على ابنه إسحاق، فزوجه رفقا بنت بتوئيل بن ناحور بن تارح، وبعث مولاه فحملها من بلادها، ومعها مرضعتها، وجواريها على الإبل.

قالوا: ثم تزوج إبراهيم عليه السلام قنطورا، فولدت له زمران، ويقشان، ومادان، ومدين، وشياق، وشوح. وذكروا: ما ولد كل واحد من هؤلاء أولاد قنطورا.

وقد روى ابن عساكر عن غير واحد من السلف، عن أخبار أهل الكتاب، في صفة مجيء ملك الموت إلى إبراهيم عليه السلام أخبارا كثيرة الله أعلم بصحتها. وقد قيل: إنه مات فجأة، وكذا داود وسليمان، والذي ذكره أهل الكتاب وغيرهم خلاف ذلك.

قالوا: ثم مرض إبراهيم عليه السلام، ومات عن مائة وخمس وسبعين. وقيل وتسعين سنة، ودفن في المغارة المذكورة التي كانت بحبرون الحيثي، عند امرأته سارة التي في مزرعة عفرون الحيثي، وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقد ورد ما يدل على أنه عاش مائتي سنة، كما قاله ابن الكلبي.

فقال أبو حاتم بن حبان في "صحيحه": أنبأنا المفضل بن محمد الجندي بمكة، حدثنا علي بن زياد اللخمي، حدثنا أبو قرة، عن ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي ﷺ: قال : "اختتن إبراهيم بالقدوم، وهو ابن عشرين، ومائة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة".

وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق عكرمة بن إبراهيم وجعفر بن عون العمري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد، عن أبي هريرة موقوفا.

ثم قال ابن حبان: ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن رفع هذا الخبر وهم: أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد، حدثنا قتية بن سعيد، حدثنا الليث، عن ابن عجلان، عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: اختتن إبراهيم حين بلغ عشرين ومائة سنة، وعاش بعد ذلك ثمانين سنة، واختتن بقدوم".

وقد رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ.

ثم روى ابن حبان عن عبد الرزاق، أنه قال: القدوم اسم القرية.

قلت: الذي في الصحيح أنه اختتن. وقد أتت عليه ثمانون سنة.

وفي رواية: وهو ابن ثمانين سنة. وليس فيهما تعرض لما عاش بعد ذلك والله أعلم.

وقال محمد بن إسماعيل الحساني الواسطي: زاد في تفسير وكيع عنه فيما ذكره من الزيادات، حدثنا أبو معاوية، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، قال: كان إبراهيم أول من تسرول، وأول من فرق، وأول من استحد، وأول من اختتن بالقدوم، وهو ابن عشرين ومائة سنة. وعاش بعد ذلك ثمانين سنة. وأول من قرى الضيف، وأول من شاب. هكذا رواه موقوفا. وهو أشبه بالمرفوع خلافا لابن حبان والله أعلم.

وقال مالك عن يحيى بن سعيد بن المسيب قال: كان إبراهيم أول من أضاف الضيف، وأول الناس اختتن، وأول الناس قص شاربه، وأول الناس رأى الشيب، فقال: يا رب ما هذا؟ فقال الله: " وقار". فقال: يا رب زدني وقارا.

وزاد غيرهما: وأول من قص شاربه، وأول من استحد، وأول من لبس السراويل.

فقبره وقبر ولده إسحاق وقبر ولد ولده يعقوب في المربعة التي بناها سليمان بن داود عليه السلام ببلد حبرون وهو البلد المعروف بالخليل اليوم. وهذا متلقى بالتواتر أمة بعد أمة، وجيل بعد جيل، من زمن بني إسرائيل وإلى زماننا هذا أن قبره بالمربعة تحقيقا. فأما تعيينه منها فليس فيه خبر صحيح عن معصوم، فينبغي أن تراعى تلك المحلة، وأن تحترم احترام مثلها، وأن تبجل وأن تجل أن يداس في أرجائها، خشية أن يكون قبر الخليل، أو أحد أولاد الأنبياء عليهم السلام تحتها.

وروى ابن عساكر بسنده إلى وهب بن منبه قال: وجد عند قبر إبراهيم الخليل على حجر كتابة خلقة:

ألهى جهولا أمله ** *** يموت من جا أجله

ومن دما من حتفه *** لم تغن عنه حيله

وكيف يبقى آخرا *** من مات عنه أوله

والمرء لا يصحبه ** في القبر إلا عمله
ذكر أولاد إبراهيم الخليل

أول من ولد له: إسماعيل من هاجر القبطية المصرية، ثم ولد له إسحاق من سارة بنت عم الخليل، ثم تزوج بعدها قنطورا بنت يقطن الكنعانية، فولدت له ستة: مدين، وزمران، وسرج، ويقشان، ونشق، ولم يسم السادس. ثم تزوج بعدها حجون بنت أمين، فولدت له خمسة: كيسان، وسورج، واميم، ولوطان، ونافس. هكذا ذكره أبو القاسم السهيلي في كتابه "التعريف والاعلام".
قصة لوط عليه السلام

ومما وقع في حياة إبراهيم الخليل من الأمور العظيمة قصة قوم لوط عليه السلام، وما حل بهم من النقمة العميمة.

وذلك أن لوطا بن هاران بن تارح، وهو آزر، كما تقدم، ولوط ابن أخي إبراهيم الخليل، فإبراهيم، وهاران وناحور إخوة كما قدمنا. ويقال: إن هاران هذا هو الذي بنى حران. وهذا ضعيف لمخالفته ما بأيدي أهل الكتاب والله تعالى أعلم.

وكان لوط قد نزح عن محلة عمه الخليل عليهما السلام بأمره له وأذنه، فنزل بمدينة سدوم من أرض غور، زغر، وكان أم تلك المحله، ولها أرض ومعتملات وقرى، مضافة إليها ولها أهل من أفجر الناس وأكفرهم وأسوأهم طوية، وأرداهم سريرة وسيرة، يقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر، ولا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.

ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، وهي إتيان الذكران من العالمين، وترك ما خلق الله من النسوان لعباده الصالحين.

فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات، والفواحش المنكرات، والأفاعيل المستقبحات، فتمادوا على ضلالهم وطغيانهم، واستمروا على فجورهم وكفرانهم، فأحل الله بهم من البأس الذي لا يرد ما لم يكن في خلدهم وحسبانهم، وجعلهم مثله في العالمين، وعبرة يتعظ بها الألباء من العالمين.

ولهذا ذكر الله تعالى قصتهم في غير ما موضع في كتابه المبين، فقال تعالى في سورة الأعراف: {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون، وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين}.

وقال تعالى في سورة هود: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط، إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود، ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب، وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد، قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد، قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب، فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}.

وقال تعالى في سورة الحجر: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون، قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم، قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون، قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين، قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين، فلما جاء آل لوط المرسلون، قال إنكم قوم منكرون، قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون، وأتيناك بالحق وإنا لصادقون، فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون، وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين، وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحوني، واتقوا الله ولا تخزوني، قالوا أولم ننهك عن العالمين، قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين، لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون، فأخذتهم الصيحة مشرقين، فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل، إن في ذلك لآيات للمتوسمين، وإنها لبسبيل مقيم، إن في ذلك لآية للمؤمنين}.

وقال تعالى في سورة الشعراء: {كذبت قوم لوط المرسلين، إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعوني، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون، قالوا لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين، قال إني لعملكم من القالين رب نجني وأهلي مما يعملون، فنجيناه وأهله أجمعين، إلا عجوزا في الغابرين، ثم دمرنا الآخرين، وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.

وقال تعالى في سورة النمل: {ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون، أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون، فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين}.

وقال تعالى في سورة العنكبوت: {ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، قال رب انصرني على القوم المفسدين، ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين، إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون، ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون}.

وقال تعالى في سورة الصافات: {وإن لوطا لمن المرسلين، إذ نجيناه وأهله أجمعين، إلا عجوزا في الغابرين، ثم دمرنا الآخرين، وإنكم لتمرون عليهم مصبحين، وبالليل أفلا تعقلون}.

وقال تعالى في الذاريات بعد قصة ضيف إبراهيم وبشارتهم إياه بغلام عليم: {قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين، فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}.

وقال في سورة القمر: {كذبت قوم لوط بالنذر، إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر، نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر، ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر، ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر، ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر، فذوقوا عذابي ونذر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}.

وقد تكلمنا على هذه القصص في أماكنها من هذه السورة في التفسير.

وقد ذكر الله لوطا وقومه في مواضع أخر من القرآن، تقدم ذكرها مع نوح وعاد وثمود.

والمقصود الآن إيراد ما كان من أمرهم وما أحل الله بهم مجموعا من الآيات والآثار وبالله المستعان. وذلك أن لوطا عليه السلام لما دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي ما ذكر الله عنهم من الفواحش، لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا به، حتى ولا رجل واحد منهم، ولم يتركوا ما عنه نهوا، بل استمروا على حالهم، ولم يرتدعوا عن غيهم وضلالهم، وهموا بإخراج رسولهم من بين ظهرانيهم. {واستضعفوه وسخروا منه} وما كان حاصل جوابهم عن خطابهم إذ كانوا لا يعقلون إلا أن قالوا: {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} فجعلوا غاية المدح ذما يقتضي الإخراج، وما حملهم على مقالتهم هذه إلا العناد واللجاج.

فطهره الله وأهله إلا امرأته، وأخرجهم منها أحسن إخراج، وتركهم في محلتهم خالدين، لكن بعد ما صيرها عليهم بحرة منتنة، ذات أمواج، لكنها عليهم في الحقيقة نار تأجج، وحر يتوهج، وماؤها ملح أجاج.

وما كان هذا جوابهم إلا لما نهاهم عن الطامة العظمى والفاحشة الكبرى، التي لم يسبقهم إليها أحد من أهل الدنيا. ولهذا صاروا مثلة فيها وعبرة لمن عليها. وكانوا مع ذلك يقطعون الطريق، ويخونون الرفيق، ويأتون في ناديهم، وهو مجتمعهم ومحل حديثهم وسمرهم، المنكر من الأقوال والأفعال، على اختلاف أصنافه، حتى قيل: إنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم، ولا يستحيون من مجالسهم، وربما وقع منهم الفعلة العظيمة في المحافل، ولا يستنكفون ولا يرعوون لوعظ واعظ، ولا نصيحة من عاقل، وكانوا في ذلك وغيره كالأنعام بل أضل سبيلا، ولم يقلعوا عما كانوا عليه في الحاضر، ولا ندموا على ما سلف من الماضي، ولا راموا في المستقبل تحويلا، فأخذهم الله أخذا وبيلا.

وقالوا له فيما قالوا: {ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين} فطلبوا منه وقوع ما حذرهم عنه من العذاب الأليم وحلول البأس العظيم.

فعند ذلك دعا عليهم نبيهم الكريم، فسأل من رب العالمين وإله المرسلين، أن ينصره على القوم المفسدين.

فغار الله لغيرته، وغضب لغضبته، واستجاب لدعوته، وأجابه إلى طلبته، وبعث رسله الكرام، وملائكته العظام، فمروا على الخليل إبراهيم، وبشروه بالغلام العليم، وأخبروه بما جاؤا له من الأمر الجسيم والخطب العميم {قال فما خطبكم أيها المرسلون، قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، لنرسل عليهم حجارة من طين، مسومة عند ربك للمسرفين} وقال: {ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين} وقال الله تعالى: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط}. وذلك إنه كان يرجو أن يجيبوا أو ينيبوا ويسلموا ويقلعوا ويرجعوا. لهذا قال تعالى: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود}. أي أعرض عن هذا وتكلم في غيره فإنه قد حتم أمرهم ووجب عذابهم وتدميرهم وهلاكهم إنه قد جاء أمر ربك أي قد أمر به من لا يرد أمره ولا يرد بأسه ولا معقب لحكمه وإنهم آتيهم عذاب غير مردود.

وذكر سعيد بن جبير والسدي وقتادة ومحمد بن إسحاق أن إبراهيم عليه السلام جعل يقول "أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن قالوا لا قال فمائتا مؤمن قالوا لا قال فأربعون مؤمنا قالوا: لا قال فأربعة عشر مؤمنا قالوا لا) قال ابن إسحاق: إلى أن قال: "أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد قالوا لا" قال: { إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها} الآية.

وعند أهل الكتاب أنه قال "يا رب أتهلكهم وفيهم خمسون رجلا صالحا؟ فقال الله: لا أهلكهم وفيهم خمسون صالحا، ثم تنازل عشرة فقال الله: "لا أهلكهم وفيهم عشرة صالحون".

قال الله تعالى:{ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب}. قال المفسرون: لما فصلت الملائكة من عند إبراهيم، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، أقبلوا حتى أتوا أرض سدوم، في صور شبان حسان اختبارا من الله تعالى لقوم لوط، وإقامة للحجة عليهم، فتضيفوا لوطا عليه السلام وذلك عند غروب الشمس، فخشي إن لم يضفهم أن يضيفهم غيره، وحسبهم بشرا من الناس، {وسيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب}. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومحمد بن إسحاق، شديد بلاؤه، وذلك لما يعلم من مدافعته الليلة عنهم، كما كان يصنع بهم في غيرهم، وكانوا قد اشترطوا عليه أن لا يضيف أحدا، ولكن رأى من لا يمكن المحيد عنه.

وذكر قتادة أنهم وردوا عليه وهو في أرض له، يعمل فيها فتضيفوا، فاستحيا منهم، وانطلق أمامهم، وجعل يعرض لهم في الكلام لعلهم ينصرفون عن هذه القرية، وينزلون في غيرها، فقال لهم فيما قال: والله يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء، ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم، حتى كرره أربع مرات. قال: وكانوا قد أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك.

وقال السدي: خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا سدوم، لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها، وكانت له ابنتان اسم الكبرى "ريثا"، والصغرى "زغرتا"، فقالوا لها: يا جارية هل من منزل؟ فقالت لهم: مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم، فرقت عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت: يا أبتاه، أرادك فتيان على باب المدينة، ما رأيت وجوه قوم قط هي أحسن منهم، لا يأخذهم قومك، فيفضحوهم. وقد كان قومه نهوه أن يضيف رجلا فقالوا: خل عنا فلنضف الرجال.

فجاء بهم، فلم يعلم أحد إلا أهل البيت، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، فقالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قط فجاءه قومه يهرعون إليه.

وقوله: {ومن قبل كانوا يعملون السيئات}. أي هذا مع ما سلف لهم من الذنوب العظيمة الكبيرة الكثيرة، {قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم} يرشدهم إلى غشيان نسائهم، وهن بناته شرعا لأن النبي للأمة بمنزلة الوالد، كما ورد في الحديث، وكما قال تعالى: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} وفي قول بعض الصحابة والسلف وهو أب لهم. وهذا كقوله: {أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون}.

وهذا هو الذي نص عليه مجاهد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وهو الصواب.

والقول الآخر خطأ مأخوذ من أهل الكتاب، وقد تصحف عليهم كما أخطأوا في قولهم: إن الملائكة كانوا إثنين، وإنهم تعشوا عنده، وقد خبط أهل الكتاب في هذه القصة تخبيطا عظيما. وقوله: {فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد} نهى لهم عن تعاطي ما لا يليق من الفاحشة، وشهادة عليهم بأنه ليس فيهم رجل له مسكة، ولا فيه خير، بل الجميع سفهاء، فجرة أقوياء، كفرة أغبياء.

وكان هذا من جملة ما أراد الملائكة أن يسمعوه منه من قبل أن يسألوه عنه.

فقال قومه عليهم لعنة الله الحميد المجيد. مجيبين لنبيهم فيما أمرهم به من الأمر السديد : {قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد} يقولون: عليهم لعائن الله، لقد علمت يا لوط إنه لا أرب لنا في نسائنا، وإنك لتعلم مرادنا وغرضنا "من غير النساء".

واجهوا بهذا الكلام القبيح رسولهم الكريم، ولم يخافوا سطوة العظيم، ذي العذاب الأليم. ولهذا قال عليه السلام {قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} ود أن لو كان له بهم قوة، أو له منعة وعشيرة ينصرونه عليهم، ليحل بهم ما يستحقونه من العذاب، على هذا الخطاب. وقد قال الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا "نحن أحق بالشك من إبراهيم، ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي". ورواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.

وقال محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال "رحمة الله على لوط، إن كان يأوي إلى ركن شديد، يعني الله عز وجل، فما بعث الله بعده نبي إلا في ثروة من قومه".

وقال تعالى: {وجاء أهل المدينة يستبشرون، قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحوني، واتقوا الله ولا تخزوني، قالوا أولم ننهك عن العالمين، قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين} فأمرهم بقربان نسائهم، وحذرهم الاستمرار على طريقتهم وسيآتهم.

هذا وهم في ذلك لا ينتهون ولا يرعوون، بل كلما نهاهم يبالغون في تحصيل هؤلاء الضيفان ويحرصون. ولم يعلموا ما حم به القدر مما هم إليه صائرون، وصبيحة ليلتهم إليه منقلبون.

ولهذا قال تعالى مقسما بحياة نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون} وقال تعالى: {ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر، ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر، ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر}.

ذكر المفسرون وغيرهم أن نبي الله لوطا عليه السلام جعل يمانع قومه الدخول، ويدافعهم، والباب مغلق، وهم يرومون فتحه وولوجه، وهو يعظهم وينهاهم من وراء الباب، وكل ما لهم في إلحاح وإنحاح، فلما ضاق الأمر وعسر الحال قال ما قال {قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد} لأحللت بكم النكال.

قالت الملائكة {يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} وذكروا أن جبريل عليه السلام خرج عليهم فضرب وجوههم خفقة بطرف جناحه، فطمست أعينهم، حتى قيل: إنها غارت بالكلية، ولم يبق لها محل ولا عين، ولا أثر، فرجعوا يتحسسون مع الحيطان، ويتوعدون رسول الرحمن، ويقولون: إذا كان الغد كان لنا وله شأن.

قال الله تعالى {ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر، ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر}.

فذلك أن الملائكة تقدمت إلى لوط عليه السلام آمرين له بأن يسري هو وأهله من آخر الليل، ولا يلتفت منكم أحد، يعني عند سماع صوت العذاب إذا حل بقومه، وأمروه أن يكون سيره في آخرهم كالساقة لهم.

وقوله: {إلا امرأتك} على قراءة النصب، يحتمل أن يكون مستثنى من قوله {فأسر بأهلك}، كأنه يقول: إلا امرأتك فلا تسر بها. ويحتمل أن يكون من قوله: {ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك}، أي: فإنها ستلتفت فيصيبها ما أصابهم. ويقوي هذا الاحتمال قراءة الرفع، ولكن الأول أظهر في المعنى والله أعلم.

قال السهيلي واسم امرأة لوط "والهة" واسم امرأة نوح "والغة".

وقالوا له مبشرين بهلاك هؤلاء البغاة العتاة الملعونين النظراء والأشباه الذين جعلهم الله سلفا لكل خائن مريب: {إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب}.

فلما خرج لوط عليه السلام بأهله، وهم ابنتاه، لم يتبعه منهم رجل واحد، ويقال: إن امرأته خرجت معه فالله أعلم.

فلما خلصوا من بلادهم، وطلعت الشمس فكان عند شروقها جاءهم من أمر الله ما لا يرد. ومن البأس الشديد ما لا يمكن أن يصد.

وعند أهل الكتاب أن الملائكة أمروه أن يصعد إلى رأس الجبل الذي هناك، فاستبعده وسأل منهم أن يذهب إلى قرية قريبة منهم، فقالوا: اذهب فانا ننتظرك حتى تصير إليها وتستقر فيها، ثم نحل بهم العذاب، فذكروا أنه ذهب إلى قرية "صوغر" التي يقول الناس "غور زغر" فلما أشرقت الشمس نزل بهم العذاب.

قال الله تعالى: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد}.

قالوا: اقتلعهن جبريل بطرف جناحه من قرارهن، وكن سبع مدن بمن فيهن من الأمم، فقالوا: إنهم كانوا أربع مائة نسمة. وقيل: أربعة آلاف نسمة وما معهم من الحيوانات، وما يتبع تلك المدن من الأراضي والأماكن والمعتملات، فرفع الجميع حتى بلغ بهن عنان السماء، حتى سمعت الملائكة أصوات ديكتهم ونباح كلابهم، ثم قلبها عليهم، فجعل عاليها سافلها. قال مجاهد: فكان أول ما سقط منها شرفاتها.

{وأمطرنا عليها حجارة من سجيل} والسجيل فارسي معرب، وهو الشديد الصلب القوي (منضود) أي يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم من السماء (مسومة) أي معلمة مكتوب على كل حجر اسم صاحبه، الذي يهبط عليه فيدمغه، كما قال: {مسومة عند ربك للمسرفين} وكما قال تعالى: {وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين}. وقال تعالى: {والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى} يعني: قلبها فأهوى بها منكسة عاليها سافلها، وغشاها بمطر من حجارة من سجيل، متتابعة مسومة مرقومة، على كل حجر اسم صاحبه الذي سقط عليه من الحاضرين، منهم في بلدهم والغائبين عنها من المسافرين، والنازحين والشاذين منها.

ويقال: إن امرأة لوط مكثت مع قومها. ويقال: إنها خرجت مع زوجها وبنتيها، ولكنها لما سمعت الصيحة، وسقوط البلدة) التفتت إلى قومها، وخالف أمر ربها قديما وحديثا، وقالت: وا قوماه فسقط عليها حجر، فدمغها وألحقها بقومها، إذ كانت على دينهم، وكانت عينا لهم، على من يكون عند لوط من الضيفان.

كما قال تعالى: {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين} أي خانتاهما في الدين فلم يتبعاهما فيه. وليس المراد أنهما كانتا على فاحشة، حاشا وكلا. فإن الله لا يقدر على نبي قط أن تبغى امرأته، كما قال ابن عباس وغيره من أئمة السلف والخلف: ما بغت امرأة نبي قط. ومن قال خلاف هذا فقد أخطأ خطأ كبيرا.

قال الله تعالى في قصة الإفك، لما أنزل براءة أم المؤمنين عائشة بنت الصديق، زوج رسول الله ﷺ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فعاتب الله المؤمنين وأنب وزجر ووعظ وحذر، وقال فيما قال: {تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم}. أي سبحانك أن تكون زوجة نبيك بهذه المثابة.

وقوله هنا: {وما هي من الظالمين ببعيد} أي وما هذه العقوبة ببعيدة ممن أشبههم في فعلهم. ولهذا ذهب من ذهب من العلماء إلى أن اللائط يرجم سواء كان محصنا أو لا، ونص عليه الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من الأئمة.

واحتجوا أيضا بما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به".

وذهب أبو حنيفة إلى أن اللائط يلقى من شاهق جبل، ويتبع بالحجارة، كما فعل بقوم لوط، لقوله تعالى: {وما هي من الظالمين ببعيد}.

وجعل الله مكان تلك البلاد بحرة منتنة لا ينتفع بمائها ولا بما حولها من الأراضي المتاخمة لفنائها، لرداءتها ودناءتها، فصارت عبرة ومثلة وعظة وآية على قدرة الله تعالى وعظمته وعزته في انتقامه ممن خالف أمره وكذب رسله واتبع هواه وعصى مولاه. ودليلا على رحمته بعباده المؤمنين في انجائه إياهم من المهلكات، وإخراجه إياهم من النور إلى الظلمات، كما قال تعالى: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.

وقال الله تعالى: {فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين} أي من نظر بعين الفراسة والتوسم فيهم، كيف غير الله تلك البلاد وأهلها، وكيف جعلها بعد ما كانت آهلة عامرة، هالكة غامرة. كما روى الترمذي وغيره مرفوعا "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". ثم قرأ: {إن في ذلك لآيات للمتوسمين}.

وقوله {وإنها لبسبيل مقيم} أي لبطريق مهيع مسلوك إلى الآن، كما قال: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين، وبالليل أفلا تعقلون} وقال تعالى: {ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون} وقال تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين، وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}.

أي تركناها عبرة وعظة لمن خاف عذاب الآخرة وخشي الرحمن بالغيب، وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، فانزجر عن محارم الله وترك معاصيه وخاف أن يشابه قوم لوط. ومن تشبه بقوم فهو منهم، وإن لم يكن من كل وجه فمن بعض الوجوه، كما قال بعضهم:

فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم ** فما قوم لوط منكم ببعيد

فالعاقل اللبيب الفاهم الخائف من ربه يمتثل ما أمره الله به عز وجل، ويقبل ما أرشده إليه رسول الله ﷺ من إتيان ما خلق له من الزوجات الحلال، والجواري من السراري ذوات الجمال. وإياه أن يتبع كل شيطان مريد. فيحق عليه الوعيد. ويدخل في قوله تعالى: {وما هي من الظالمين ببعيد}.
قصة مدين قوم شعيب عليه السلام

قال الله تعالى في سورة الأعراف بعد قصة قوم لوط: {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين، ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين، فتولى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين}.

وقال في سورة هود بعد قصة قوم لوط أيضا. {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط، وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ، قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد، قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد، واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود، قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز، قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط، ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب، ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود}.

وقال في الحجر بعد قصة لوط أيضا: {وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين، فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين}.

وقال تعالى في الشعراء بعد قصتهم {كذب أصحاب الأيكة المرسلين، إذ قال لهم شعيب ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعوني، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين، قالوا إنما أنت من المسحرين، وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين، فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين، قال ربي أعلم بما تعملون، فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.

كان أهل مدين قوما عربا يسكنون مدينتهم مدين، التي هي قريبة من أرض معان من أطراف الشام، مما يلي ناحية الحجار قريبا من بحيرة قوم لوط. وكانوا بعدهم بمدة قريبة. ومدين مدينة عرفت بالقبيلة وهم من بني مدين بن مديان بن إبراهيم الخليل.

وشعيب نبيهم هو ابن ميكيل بن يشجن ذكره ابن إسحاق.

قال: ويقال له بالسريانية يترون وفي هذا نظر ويقال: شعيب بن يشخر بن لاوي بن يعقوب. ويقال: شعيب بن نويب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم. ويقال شعيب بن صيفور بن عيفا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم. وقيل غير ذلك في نسبه.

قال ابن عساكر: ويقال جدته، ويقال أمه بنت لوط.

وكان ممن آمن بإبراهيم وهاجر معه، ودخل معه دمشق.

وعن وهب بن منبه انه قال: شعيب وملغم ممن آمن بإبراهيم يوم أحرق بالنار، وهاجرا معه إلى الشام، فزوجهما بنتي لوط عليه السلام. ذكره ابن قتيبة. وفي هذا كله نظر أيضا والله تعالى أعلم.

وذكر أبو عمرو بن عبد البر في الاستيعاب، في ترجمة سلمة بن سعد العنزي: أنه قدم على رسول الله ﷺ فأسلم وانتسب إلى عنزة، فقال: "نعم الحي عنزة، مبغي عليهم منصورين، قوم شعيب وأختان موسى".

فلو صح هذا لدل على أن شعيبا صهر موسى وأنه من قبيلة من العرب العاربة، يقال لهم عنزة، لا أنهم من عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان فإن هؤلاء بعده بدهر طويل. والله أعلم.

وفي حديث أبي ذر الذي في صحيح ابن حبان في ذكر الأنبياء والرسل قال : "أربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر" وكان بعض السلف يسمي شعيبا خطيب الأنبياء يعني لفصاحته وعلو عبارته وبلاغته في دعاية قومه إلى الإيمان برسالته.

وقد روى ابن إسحاق بن بشر عن جويبر ومقاتل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ إذا ذكر شعيبا قال: (ذاك خطيب الأنبياء).

وكان أهل مدين كفارا، يقطعون السبيل ويخيفون المارة، ويعبدون الأيكة وهي شجرة من الأيك حولها غيضة ملتفة بها.

وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيهما، يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص.

فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو رسول الله شعيب عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة، من بخس الناس أشيائهم واخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم فآمن به بعضهم وكفر أكثرهم، حتى أحل الله بهم البأس الشديد. وهو الولي الحميد.

كما قال تعالى: {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم} أي دلالة وحجة واضحة وبرهان قاطع على صدق ما جئتكم به وأنه أرسلني، وهو ما أجرى الله على يديه من المعجزات التي لم تنقل إلينا تفصيلا وإن كان هذا اللفظ قد دل عليها إجمالا.

{فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها}. أمرهم بالعدل ونهاهم عن الظلم وتوعدهم على خلاف ذلك فقال: {ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين، ولا تقعدوا بكل صراط} أي طريق {توعدون} أي تتوعدون الناس بأخذ أموالهم من مكوس وغير ذلك، وتخيفون السبل.

قال السدي في "تفسيره" عن الصحابة "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون" أنهم كانوا يأخذون العشور من أموال المارة.

وقال إسحاق بن بشر عن جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق يبخسون الناس يعني يعشرونهم. وكانوا أول من سن ذلك.

{وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا} فنهاهم عن قطع الطريق الحسية الدنيوية، والمعنوية الدينية.

{واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} ذكرهم بنعمة الله تعالى عليهم في تكثيرهم بعد القلة، وحذرهم نقمة الله بهم إن خالفوا ما أرشدهم إليه ودلهم عليه، كما قال لهم في القصة الأخرى: {ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط} أي لا تركبوا ما أنتم عليه وتستمروا فيه فيمحق الله بركة ما في أيديكم ويفقركم، ويذهب ما به يغنيكم.

وهذا مضاف إلى عذاب الآخرة، ومن جمع له هذا وهذا فقد باء بالصفقة الخاسرة.

فنهاهم أولا عن تعاطي ما لا يليق من التطفيف، وحذرهم سلب نعمة الله عليهم في دنياهم، وعذابه الأليم في أخراهم وعنفهم أشد تعنيف.

ثم قال لهم آمرا بعد ما كان عن ضده زاجرا: {ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ}.

قال ابن عباس والحسن البصري: "بقية الله خير لكم" أي رزق الله خير لكم من أخذ أموال الناس. وقال ابن جرير: ما فضل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس بالتطفيف. قال: وقد روي هذا عن ابن عباس.

وهذا الذي قاله وحكاه حسن، وهو شبيه بقوله تعالى: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} يعني أن القليل من الحلال خير لكم من الكثير من الحرام، فإن الحلال مبارك وأن قل، والحرام ممحوق وإن كثر، كما قال تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}.

وقال رسول الله ﷺ: "إن الربا وان كثر فإن مصيره إلى قل" رواه أحمد. أي: إلى قلة.

وقال رسول الله ﷺ "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".

والمقصود أن الربح الحلال مبارك فيه وإن قل والحرام لا يجدي وإن كثر، ولهذا قال نبي الله شعيب "بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين".

وقوله "وما أنا عليكم بحفيظ" أي افعلوا ما آمركم به ابتغاء وجه الله ورجاء ثوابه لا لأراكم أنا وغيري.

{قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد}. يقولون هذا على سبيل الاستهزاء والتنقص والتهكم: أصلاتك هذه التي تصليها هي الآمرة لك بأن تحجر علينا فلا نعبد إلا إلهك ونترك ما يعبد آباؤنا الأقدمون، وأسلافنا الأولون؟ أو أن لا نتعامل إلا على الوجه الذي ترتضيه أنت ونترك المعاملات التي تأباها وإن كنا نحن نرضاها؟

{إنك لأنت الحليم الرشيد} قال ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وزيد بن أسلم وابن جرير، يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء.

{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب}.

هذا تلطف معهم في العبارة ودعوة لهم إلى الحق بأبين إشارة.

يقول لهم: أرأيتم أيها المكذبون {إن كنت على بينة من ربي} أي على أمر بين من الله تعالى، أنه أرسلني إليكم، {ورزقني منه رزقا حسنا} يعني النبوة والرسالة، يعني وعمى عليكم معرفتها، فأي حيلة لي فيكم؟

وهذا كما تقدم عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه سواء.

وقوله {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} أي لست آمركم بالأمر إلا وأنا أول فاعل له، وإذا نهيتكم عن الشيء فأنا أول من يتركه.

وهذه هي الصفة المحمودة العظيمة، وضدها هي المردودة الذميمة، كما تلبس بها علماء بني إسرائيل في آخر زمانهم وخطباءهم الجاهلون. قال الله تعالى :{ أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} وذكرنا عندها في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: "يؤتى بالرجل فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، أي تخرج أمعاؤه من بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك، ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه".

وهذه صفة مخالفي الأنبياء من الفجار والأشقياء فأما السادة من النجباء والألباء من العلماء الذين يخشون ربهم بالغيب فحالهم كما قال نبي الله شعيب: "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" أي ما أريد في جميع أمري إلا الإصلاح في الفعال والمقال بجهدي وطاقتي.

"وما توفيقي" أي في جميع أحوالي "إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" أي: عليه أتوكل في سائر الأمور وإليه مرجعي ومصيري في كل أمري وهذا مقام ترغيب.

ثم انتقل إلى نوه من الترهيب فقال: {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد}.

أي لا تحملنكم مخالفتي وبغضكم ما جئتكم به على الاستمرار على ضلالكم وجهلكم ومخالفتكم، فيحل الله بكم من العذاب والنكال نظير ما أحله بنظرائكم وأشباهكم، من قوم نوح وقوم هود وقوم صالح من المكذبين المخالفين.

وقوله {وما قوم لوط منكم ببعيد} قيل معناه في الزمان، أي ما بالعهد من قدم مما قد بلغكم ما أحل بهم على كفرهم وعتوهم. وقيل: معناه وما هم منكم ببعيد في المحلة والمكان. وقيل في الصفات والأفعال المستقبحات من قطع الطريق وأخذ أموال الناس جهرة وخفية بأنواع الحيل والشبهات.

والجمع بين هذه الأقوال ممكن فإنهم لم يكونوا بعيدين منهم لا زمانا ولا مكانا ولا صفات.

ثم مزج الترهيب بالترغيب فقال: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود} أي اقلعوا عما أنتم فيه وتوبوا إلى ربكم الرحيم الودود، فإنه من تاب إليه تاب عليه، فإنه رحيم بعباده أرحم بهم من الوالدة بولدها، ودود وهو الحبيب ولو بعد التوبة على عبده ولو من الموبقات العظام.

{قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا}.

روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري، أنهم قالوا: كان ضرير البصر. وقد روي في حديث مرفوع "أنه بكى من حب الله حتى عمى فرد الله عليه بصره. وقال : يا شعيب أتبكي خوفا من النار، أو من شوقك إلى الجنة؟ فقال: بل من محبتك، فإذا نظرت إليك فلا أبالي ماذا يصنع بي، فأوحى الله إليه هنيئا لك يا شعيب لقائي فلذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي".

رواه الواحدي عن أبي الفتح محمد بن علي الكوفي، عن علي بن الحسن بن بندار، عن عبد الله محمد بن إسحاق الرملي عن هشام بن عمار، عن إسماعيل بن عباس، عن يحيى بن سعيد، عن شداد بن أوس عن النبي ﷺ بنحوه. وهو غريب جدا، وقد ضعفه الخطيب البغدادي.

وقولهم {ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} وهذا من كفرهم البليغ وعنادهم الشنيع حيث قالوا: "ما نفقه كثيرا مما تقول" أي ما نفهمه ولا نعقله، لأنه لا نحبه ولا نريده، وليس لنا همة إليه ولا إقبال عليه.

وهو كما قال كفار قريش لرسول الله ﷺ {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون} .

وقولهم{وإنا لنراك فينا ضعيفا} أي مضطهدا مهجورا {ولولا رهطك} أي قبيلتك وعشيرتك فينا {لرجمناك وما أنت علينا بعزيز}.

{قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله} أي تخافون قبيلتي وعشيرتي وترعوني بسببهم ولا تخافون عذاب الله ولا تراعوني لأني رسول الله، فصار رهطي أعز عليكم من الله "أي جانب الله وراء ظهوركم" أي هو عليم بما تعملونه وما تصنعونه محيط بذلك وسيجزيكم عليه يوم ترجعون إليه.

{ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب}.

هذا أمر تهديد شديد ووعيد أكيد بأن يستمروا على طريقتهم ومنهجهم وشاكلتهم، فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار، ومن يحل عليه الهلاك والبوار {من يأتيه عذاب يخزيه} أي في هذه الحياة الدنيا {ويحل عليه عذاب مقيم} أي في الأخرى {ومن هو كاذب} أي مني ومنكم فيما أخبر وبشر وحذر.

{وارتقبوا إني معكم رقيب} هذا كقوله: {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين}.

{قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين، قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين}.

طلبوا بزعمهم أن يردوا من آمن منهم إلى ملتهم فانتصب شعيب للمحاجة عن قومه فقال: {أو لو كنا كارهين} أي هؤلاء لا يعودون إليكم اختيارا، وإنما يعودون إليكم إن عادوا اضطرارا مكرهين، وذلك لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد، ولا يرتد أحد عنه، ولا محيد لأحد منه.

ولهذا قال: {قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا} أي فهو كافينا، وهو العاصم لنا، وإليه ملجأنا في جميع أمرنا. ثم استفتح على قومه واستنصر ربه عليهم في تعجيل ما يستحقونه إليهم فقال: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} أي الحاكمين فدعا عليهم، والله لا يرد دعاء رسله إذا انتصروه على الذين جحدوه وكفروه، ورسوله خالفوه.

ومع هذا صموا على ما هم عليه مشتملون. وبه متلبسون {وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون}.

قال الله تعالى: {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} ذكر في سورة الأعراف أنهم أخذتهم رجفة، أي رجفت بهم أرضهم وزلزلت زلزالا شديدا أزهقت أرواحهم من أجسادها، وصيرت حيوان أرضهم كجمادها، وأصبحت جثثهم جاثية، لا أرواح فيها، ولا حركات بها ولا حواس لها.

وقد جمع الله عليهم أنواعا من العقوبات وصنوفا من المثلات، وأشكالا من البليات، وذلك لما اتصفوا به قبيح الصفات، سلط الله عليهم رجفة شديدة أسكنت الحركات، وصيحة عظيمة أخمدت الأصوات، وظلة أرسل عليهم منها شرر النار من سائر أرجائها والجهات.

ولكنه تعالى أخبر عنهم في كل سورة بما يناسب سياقها، ويوافق طباقها، في سياق قصة الأعراف أرجفوا نبي الله وأصحابه، وتوعدوهم بالإخراج من قريتهم، أو ليعودن في ملتهم راجعين فقال تعالى: {فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} فقابل الأرجفاف بالرجفة والإخافة بالخيفة وهذا مناسب هذا السياق ومتعلق بما تقدمه من السياق.

وأما في سورة هود فذكر أنهم أخذتهم الصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، وذلك لأنهم قالوا لنبي الله على سبيل التهكم والاستهزاء والتنقص: {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد} فناسب أن يذكر الصيحة التي هي كالزجر عن تعاطي هذا الكلام القبيح الذي واجهوا به الرسول الكريم الأمين الفصيح، فجاءتهم صيحة أسكتتهم مع رجفة أسكنتهم.

وأما في سورة الشعراء فذكر أنه أخذهم عذاب يوم الظلة، وكان ذلك إجابة لما طلبوا، وتقريبا إلى ما إليه رغبوا. فإنهم قالوا: {قالوا إنما أنت من المسحرين، وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين، فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين، قال ربي أعلم بما تعملون}.

قال الله تعالى وهو السميع العليم {فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم}.

ومن زعم من المفسرين كقتادة وغيره أن أصحاب الأيكة أمة أخرى غير أهل مدين فقوله ضعيف.

وإنما عمدتهم شيئان أحدهما : أنه قال: {كذب أصحاب الأيكة المرسلين، إذ قال لهم شعيب} ولم يقل أخوهم كما قال: {وإلى مدين أخاهم شعيبا}.

والثاني انه ذكر عذابهم بيوم الظلة وذكر في أولئك الرجفة أو الصيحة.

والجواب عن الأول أنه لم يذكر الأخوة بعد قوله: {كذب أصحاب الأيكة المرسلين} لأنه وصفهم بعبادة الأيكة، فلا يناسب ذكر الأخوة ههنا ولما نسبهم إلى القبيلة، ساغ ذكر شعيب بأنه أخوهم.

وهذا الفرق من النفائس اللطيفة العزيزة الشريفة.

وأما احتجاجهم بيوم الظلة فإن كان دليلا بمجرده على أن هؤلاء أمة أخرى فليكن تعداد الانتقام بالرجفة والصيحة دليلا على أنهما أمتان أخريان، وهذا لا يقوله أحد يفهم شيئا من هذا الشأن.

فأما الحديث الذي أورده الحافظ ابن عساكر في ترجمة النبي شعيب عليه السلام، من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن معاوية بن هشام، عن هشام بن سعد، عن شفيق بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا "إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي عليه السلام".

فإنه حديث غريب وفي رجاله من تكلم فيه. والأشبه أنه من كلام عبد الله بن عمرو، مما أصابه يوم اليرموك من تلك الزاملتين من أخبار بني إسرائيل والله أعلم.

ثم قد ذكر الله عن أهل الأيكة من المذمة ما ذكره عن أهل مدين من التطفيف في المكيال والميزان، فدل على أنهم أمة واحدة أهلكوا بأنواع من العذاب. وذكر في كل موضع ما يناسب من الخطاب.

وقوله: {فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم} ذكروا أنهم أصابهم حر شديد، وأسكن الله هبوب الهواء عنهم سبعة أيام فكان لا ينفعهم مع ذلك ماء ولا ظل ولا دخولهم في الأسراب، فهربوا من محلتهم إلى البرية، فأظلتهم سحابة فاجتمعوا تحتها ليستظلوا بظلها، فلما تكاملوا فيه أرسلها الله ترميهم بشرر وشهب، ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة من السماء فأزهقت الأرواح، وخربت الأشباح.

{فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين}ونجى الله شعيبا ومن معه من المؤمنين . كما قال تعالى وهو أصدق القائلين: {ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود}.

وقال تعالى: {وقال الملأ الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين} وهذا في مقابلة قولهم {لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون}.

ثم ذكر تعالى عن نبيهم أنه نعاهم إلى أنفسهم موبخا ومؤنبا ومقرعا، فقال تعالى: {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين}.

أي أعرض عنهم موليا عن محلتهم بعد هلكتهم قائلا {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم } أي قد أديت ما كان واجبا علي من البلاغ التام والنصح الكامل وحرصت على هدايتكم بكل ما أقدر عليه وأتوصل إليه فلم ينفعكم ذلك لأن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين، فلست أتأسف بعد هذا عليكم لأنكم لم تكونوا تقبلون النصيحة ولا تخافون يوم الفضيحة.

ولهذا قال: {فكيف آسى} أي أحزن {على قوم كافرين}. أي لا يقبلون الحق ولا يرجعون إليه ولا يلتفتون إليه فحل بهم من بأس الله الذي لا يرد ما لا يدافع ولا يمانع ولا محيد لأحد أريد به عنه، ولا مناص عنه.

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في "تاريخه" عن ابن عباس "أن شعيبا عليه السلام كان بعد يوسف عليه السلام، وعن وهب بن منبه أن شعيبا عليه السلام مات بمكة ومن معه من المؤمنين وقبورهم غربي الكعبة بين دار الندوة ودار بني سهم".
باب ذكر ذرية إبراهيم عليه الصلاة والتسليم