ج م لا

 

مدونة في وداع الله يا امي/يا الله /جاري جاري / مدونات لا شرك لا شرك /قانون الحق الالهي/نوتة الصلاة //في وداع الله يااماي/تعلم التفوق بالثانوية /السيرة النبوية /الفهرست/اللهم ارحم ابي وامي /المضبطة /تخريجات أحاديث الطلاق متنا وسندا/حدود التعاملات العقائدية بين المسلمين/قانون الحق الالهي اا./قانون الحق الالهي/قانون العدل الالهي/قانون ثبات سنة الله في الخلق/كتاب الفتن علامات الساعة ويوم القيامة /مدونات لا شين/مسائل صحيح مسلم وشروح النووي الخاطئة عليها /وصف الحور العين /مامي 27/المدونة التعليمية المساعدة/مدونة الاميرة اسماء صلاح التعليمية/أمي الحنون الغالية/الكشكول الأبيض2ثانوي/الأم)منهج الصف الثاني الثانوي علمي رياضة وعلوم /ثانوي {الحاسب الآلي - والمواطنة} /ثاني ثانوي لغة عربية /أمي الحنون الغالية /احياء ثاني ثانوي ترم أول /الأمراض الخطرة والوقاية منها /البداية والنهاية للحافظ بن كثبر /التاريخ 2ث /التجويد //الترم الثاني ثاني ثانوي كل مواد 2ث //الثالث الثانوي القسم الأدبي والعلمي //الجغرافيا والجيولوجيا ثانية ثانوي //الخلاصة الحثيثة في الفيزياء //الديوان الشامل لاحكام الطلاق //السيرة النبوية //الطلاق المختلف عليه//الفيزياء الثالث الثانوي روابط //اللغة الفرنسية 2ثانوي //الملخص المفيد ثاني ثانوي ترم أول//المنهج في الطلاق //النخبة في مقررات2ث,ترم أول عام2017-2018 //النخبة في شرعة الطلاق //الهندسة بأفرعها //بيت المعرفة العامة //ترم ثاني ثاني ثانوي علمي ورياضة وادبي.. //تفوق وانطلق للعلا //ثالثة ثانوي مدونة//ثاني ثانوي ترم اول وثاني الماني //روابط المواقع التعليمية //روابط مناهج تعليمية ثاني ثانوي كل الأقسام//رياضيات بحتة وتطبيقية تاني ثانوي ترم ثاني //عبد الواحد ترم أول2ثانوي //عبدالواحد ثاني ثانوي ترم1و2.//علم المناعة //فلسفة.منطق.علم نفس.اجتماع 2ث ترم اول//فيزياء ثاني ثانوي ترم أول //فيزياء ثاني ثانوي ترم ثاني //كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري //كتاب الزكاة //كتب ثاني ثانوي ترم1و2 //كشكول //كل الرياضيات تفاضل وتكامل وحساب مثلثات2ثانوي ترم أول وأحيانا ثاني //كيمياء ثاني ثانوي ترم أول //لغة انجليزية2ث.ترم أول //مدونة الأميرة الصغيرة//أسماء صلاح التعليمية 3ث //مدونة الإختصارات //مدونة الجامعة المانعة لأحكام الطلاق حسب سورة/الطلاق7/5هـ//مدونة اللغة الإيطالية //مدونة كل روابط المنعطف التعليمي للمرحلة الثانوية //مراجعات ليلة الامتحان كل مقررات 2ث الترم الثاني//مكتبة روابط ثاني ثانوي ترم اول //منعطف التفوق التعليمي لكل مراحل الثانوي العام //ميكانيكا واستاتيكا 2ث ترم اول //نهاية البداية

 

ممـــــ

برامج كتابة سيجما/الخلود ورؤية الناس /من مات لا يشرك بالله شيئا// كيف يقول الله تعالي إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ثم هو جل وعلا يقول../كيف يري الناس قول الله تعالي (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَ...///فإذا تبين لنا أن الشرك مقدارا هو مادونه العدم.../الشِّيئةُ تعريف معني شيئ في كتاب الله ومعجم لسان/عرض منسق لحديث /صاحب البطاقة يوم القيامة/التعقيب علي مقال إزالة الاشكال حول معني الخلود /التعقيب علي مقال.إزالة الإشكال حول معنى (الخلود) /المحكم والمتشابه في حديث /صاحب البطاقة وأخطاء أصحاب.../النصوص الظنيَّه التي اعتمد عليها النووي في صنع شرع موازيا/ من مات لا يشرك بالله شيئا /كيف يري الناس قول الله تعالي (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَ.../حديث أبي ذر من مات لا يشرك بالله شيئا../*الخلود خلودان مقولة ومصطلح مؤلف ليس من الاسلام في.../النار .. في القرآن الكريم/✿معني الخلود مجازا بنسبة قرينته وأبدا بنسبة أبدية .../✿>✿ لا خلود في لآخرة إلا بمدلول واحد هو الأبد ومن.../المأوي هو لفط دال عل الخلود في الآخرة إما إلي الجن.../مدونة قانون الحق الالهي*سنة الله الثابتة في نصر عباده.../شروط الحكم بانتهاء عقد الاسلام /تحقيق حديث مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَح.../تخريج حديث مسلم الدليل علي أن قاتل نفسه لا يكفر وا.../تحقيق حديث مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَح.../تحميل القران كلة برابط واحد الشيخ عبد الباسط/كيف يخالط الشيطان أو النفس أو الهوي إيمان المؤمني./ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَ.../الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بظل/كتاب الجامعة المانعة /نظام الطلاق في الإسلام الطلاق/حديث البطاقة (يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق /الادلة المستيقنة علي بطلان تأويلات نصوص الزجر وقطع.../شروط الشفاعة كما جاءت بكتاب الله تعالي /جديث ابي ذر من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ما هي الشفاعة ولمن تستحقفي مسار التعقيب علي النووي أسأل كل من ظاهروه٢.الإعراض عن يقين ونور المحكم من الحجج واللجوء الفهرست مدونة قانون الحق الالهيسمات النووي التي اتصف بها في معترك قلبه لنصوص الإيإن الميت علي المعصية عياذا بالله مات غير مستجيبا لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل/ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالةتابع قانون الحق الجزء [۳] إلي بيان ما هو الحقالشواهد والطرق التي تبين صحة قول ابن الصلاح الرواية الناقصة من حديث مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَد/برامج كتابة سيجما/الخلود ورؤية الناس /من مات لا يشرك بالله شيئا// كيف يقول الله تعالي إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ثم هو جل وعلا يقول../كيف يري الناس قول الله تعالي (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَ...///فإذا تبين لنا أن الشرك مقدارا هو مادونه العدم.../الشِّيئةُ تعريف معني شيئ في كتاب الله ومعجم لسان/عرض منسق لحديث /صاحب البطاقة يوم القيامة/التعقيب علي مقال إزالة الاشكال حول معني الخلود /التعقيب علي مقال.إزالة الإشكال حول معنى (الخلود) /المحكم والمتشابه في حديث /صاحب البطاقة وأخطاء أصحاب.../النصوص الظنيَّه التي اعتمد عليها النووي في صنع شرع موازيا/ من مات لا يشرك بالله شيئا /كيف يري الناس قول الله تعالي (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَ.../حديث أبي ذر من مات لا يشرك بالله شيئا../*الخلود خلودان مقولة ومصطلح مؤلف ليس من الاسلام في.../النار .. في القرآن الكريم/✿معني الخلود مجازا بنسبة قرينته وأبدا بنسبة أبدية .../✿>✿ لا خلود في لآخرة إلا بمدلول واحد هو الأبد ومن.../المأوي هو لفط دال عل الخلود في الآخرة إما إلي الجن.../مدونة قانون الحق الالهي*سنة الله الثابتة في نصر عباده.../شروط الحكم بانتهاء عقد الاسلام /تحقيق حديث مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَح.../تخريج حديث مسلم الدليل علي أن قاتل نفسه لا يكفر وا.../تحقيق حديث مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ ، فَح.../تحميل القران كلة برابط واحد الشيخ عبد الباسط/كيف يخالط الشيطان أو النفس أو الهوي إيمان المؤمني./ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَ.../الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بظل/كتاب الجامعة المانعة /نظام الطلاق في الإسلام الطلاق/حديث البطاقة (يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق /الادلة المستيقنة علي بطلان تأويلات نصوص الزجر وقطع.../شروط الشفاعة كما جاءت بكتاب الله تعالي /جديث ابي ذر من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ما هي الشفاعة ولمن تستحقفي مسار التعقيب علي النووي أسأل كل من ظاهروه٢.الإعراض عن يقين ونور المحكم من الحجج واللجوء الفهرست مدونة قانون الحق الالهيسمات النووي التي اتصف بها في معترك قلبه لنصوص الإيإن الميت علي المعصية عياذا بالله مات غير مستجيبا لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل/ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالةتابع قانون الحق الجزء [۳] إلي بيان ما هو الحقالشواهد والطرق التي تبين صحة قول ابن الصلاح الرواية الناقصة من حديث مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَد// الرواية الناقصة من حديث مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَ... أقوال النووي في المتأولات*النووي وقواعده الفجة في التأويل في كتابه: الم.نصوص الشفاعة كيف فهمها الناس وكيف تربصوا بها وحادولتوبة هي كل الاسلامفاستبدلوا اشارة الشرع الي الكلام عن ذات المؤمن بإ الشئ هو أقل مخلوق في الوجود (مثقال الذرة التوبة فرض وتكليف لا يقوم الإسلام إلا بها*التوبة هي كل الإسلامهل من قال لا اله الا الله الشواهد علي صحة من قاللماذا قالوا أن من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فهرست مدونة قانون الحق الالهيمن قانون الحق الالهي عرض آخر لمصطلح كفر دون كفر فقد وضعوه وغالطوا فيه.الفرق بين التعامل بين المسلمين وبعضهم وبين الله وا../ .........................

.........................

دليل المدونات العلمية

مدونة في وداع الله يا امي /يا الله /جاري جاري /مدونات لا شرك لا شرك / قانون الحق الالهي /نوتة الصلاة /في وداع الله يااماي /تعلم التفوق بالثانوية /السيرة النبوية /الفهرست /اللهم ارحم ابي وامي /المضبطة /تخريجات أحاديث الطلاق متنا وسندا /حدود التعاملات العقائدية بين المسلمين /قانون الحق الالهي اا. /قانون الحق الالهي /قانون العدل الالهي /قانون ثبات سنة الله في الخلق /كتاب الفتن علامات الساعة ويوم القيامة /مدونات لا شين /مسائل صحيح مسلم وشروح النووي الخاطئة عليها /وصف الحور العين /مامي 27 . المدونة التعليمية المساعدة /مدونة الاميرة اسماء صلاح التعليمية /أمي الحنون الغالية /الكشكول الأبيض2ثانوي /(الأم)منهج الصف الثاني الثانوي علمي رياضة وعلوم / 2ثانوي {الحاسب الآلي - والمواطنة / 2ثاني ثانوي لغة عربية /أمي الحنون الغالية /احياء ثاني ثانوي ترم أول /الأمراض الخطرة والوقاية منها /البداية والنهاية للحافظ بن كثبر /التاريخ 2ث /التجويد /الترم الثاني ثاني ثانوي كل مواد 2ث /الثالث الثانوي القسم الأدبي والعلمي /الجغرافيا والجيولوجيا ثانية ثانوي /الخلاصة الحثيثة في الفيزياء /الديوان الشامل لاحكام الطلاق /السيرة النبوية /الطلاق المختلف عليه /الفيزياء الثالث الثانوي روابط /اللغة الفرنسية 2ثانوي /الملخص المفيد ثاني ثانوي ترم أول /المنهج في الطلاق /النخبة في مقررات2ث,ترم أول عام2017-2018 /النخبة في شرعة الطلاق /الهندسة بأفرعها /بيت المعرفة العامة /ترم ثاني ثاني ثانوي علمي ورياضة وادبي.. /تفوق وانطلق للعلا /ثالثة ثانوي مدونة /ثاني ثانوي ترم اول وثاني الماني /روابط المواقع التعليمية /روابط مناهج تعليمية ثاني ثانوي كل الأقسام /رياضيات بحتة وتطبيقية تاني ثانوي ترم ثاني /عبد الواحد ترم أول2ثانوي /عبدالواحد ثاني ثانوي ترم1و2. /علم المناعة /فلسفة.منطق.علم نفس.اجتماع 2ث ترم اول /فيزياء ثاني ثانوي ترم أول /فيزياء ثاني ثانوي ترم ثاني /كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري /كتاب الزكاة /كتب ثاني ثانوي ترم1و2 /كشكول /كل الرياضيات تفاضل وتكامل وحساب مثلثات2ثانوي ترم أول وأحيانا ثاني /كيمياء ثاني ثانوي ترم أول /لغة انجليزية2ث.ترم أول /مدونة الأميرة الصغيرة أسماء صلاح التعليمية 3ث /مدونة الإختصارات /مدونة الجامعة المانعة لأحكام الطلاق حسب سورة الطلاق7/5هـ /مدونة اللغة الإيطالية /مدونة كل روابط المنعطف التعليمي للمرحلة الثانوية /مراجعات ليلة الامتحان كل مقررات 2ث الترم الثاني /مكتبة روابط ثاني ثانوي ترم اول /منعطف التفوق التعليمي لكل مراحل الثانوي العام /ميكانيكا واستاتيكا 2ث ترم اول /نهاية البداية

الخميس، 22 أكتوبر 2020

قصص الانبياء لان كثير ج1..6...ذكر مرور النبي ﷺ بواد الحجر من أرض ثمود عام تبوك

ذكر مرور النبي ﷺ بواد الحجر من أرض ثمود عام تبوك

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر بن جويرية عن نافع، عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله ﷺ بالناس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا القدور، فأمرهم رسول الله فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا فقال: "إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم".

وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان، حدثنا عبد العزيز بن مسلم،حدثنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله ﷺ وهو بالحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم". أخرجاه في "الصحيحين" من غير وجه.

وفي بعض الروايات: أنه عليه السلام لما مر بمنازلهم قنع رأسه، وأسرع راحلته، ونهى عن دخول منازلهم، إلا أن يكونوا باكين. وفي رواية: "فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم" صلوات الله وسلامه عليه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا المسعودي، عن إسماعيل بن أوسط، عن محمد بن أبي كبشة الأنباري عن أبيه - واسمه عمرو بن سعد ويقال عامر بن سعد - رضي الله عنه قال: لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فنادى في الناس: "الصلاة جامعة" قال فأتيت النبي ﷺ وهو ممسك بعيره وهو يقول: "ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم" فناداه رجل: نعجب منهم يا رسول الله! قال: "أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا". إسناد حسن ولم يخرجوه.

وقد ذكر أن قوم صالح كانت أعمارهم طويلة، فكانوا يبنون البيوت من المدر فتخرب قبل موت الواحد منهم، فنحتوا لهم بيوتا في الجبال.

وذكروا أن صالحا عليه السلام لما سألوه آية، فأخرج الله لهم الناقة من الصخرة، أمرهم بها وبالولد الذي كان في جوفها، وحذرهم بأس الله إن هم نالوها بسوء، وأخبرهم أنهم سيعقرونها، ويكون سبب هلاكهم ذلك. وذكر لهم صفة عاقرها، وأنه أحمر أزرق أصهب، فبعثوا القوابل في البلد متى وجدوا مولودا بهذه الصفة يقتلنه، فكانوا على ذلك دهرا طويلا.

وانقرض جيل، وأتى جيل آخر. فلما كان في بعض الأعصار خطب رئيس من رؤسائهم على ابنة بنت آخر مثله في الرياسة، فزوجه، فولد بينهما عاقر الناقة، وهو قدار بن سالف، فلم تتمكن القوابل من قتله لشرف أبويه وجده فيهم، فنشأ نشأة سريعة، فكان يشب في الجمعة كما يشب غيره في شهر، حتى كان من أمره أن خرج مطاعا فيهم رئيسا بينهم. فسولت له نفسه عقر الناقة واتبعه على ذلك ثمانية من أشرافهم، وهم التسعة الذين أرادوا قتل صالح عليه السلام.

فلما وقع من أمرهم ما وقع من عقر الناقة، وبلغ ذلك صالحا عليه السلام، جاءهم باكيا عليها، فتلقوه يعتذرون إليه، ويقولون: إن هذا لم يقع عن ملأ منا. وإنما فعل هذا هؤلاء الأحداث فينا. فيقال: أنه أمرهم باستدراك سقبها حتى يحسنوا إليه عوضا عنها، فذهبوا وراءه فصعد جبلا هناك، فلما تصاعدوا فيه وراءه تعالى الجبل حتى ارتفع، فلا يناله الطير، وبكى الفصيل حتى سالت دموعه. ثم استقبل صالحا عليه السلام ورغا ثلاثا، فعندها قال صالح: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب} وأخبرهم أنهم يصبحون من غدهم صفرا، ثم تحمر وجوههم في الثاني، وفي اليوم الثالث تسود وجوههم. فلما كان في اليوم الرابع أتتهم صيحة فيها صوت كل صاعقة، فأخذتهم فأصبحوا في دارهم جاثمين.

وفي بعض هذا السياق نظر ومخالفة لظاهر ما يفهم من القرآن في شأنهم وقصتهم كما قدمنا. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
قصة إبراهيم الخليل عليه السلام

هو إبراهيم بن تارخ "250" بن ناحور "148" بن ساروغ "230" بن راغو "239" بن فالغ "439" بن عابر"464" بن شالح "433" بن ارفخشذ "438" بن سام "600" بن نوح عليه السلام.

هذا نص أهل الكتاب في كتابهم، وقد أعلمت على أعمارهم تحت أسمائهم بالهندي كما ذكروه من المدد وقدمنا الكلام على عمر نوح عليه السلام فأغنى عن إعادته.

وحكى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إبراهيم الخليل من تاريخه عن إسحاق بن بشر الكاهلي صاحب كتاب "المبتدأ" ، أن اسم أم إبراهيم "أميلة". ثم أورد عنه في خبر ولادتها له حكاية طويلة وقال الكلبي: اسمها "بونا" بنت كربتا بن كرثى، من بني أرفخشذ بن سام بن نوح.

وروى ابن عساكر من غير وجه عن عكرمة أنه قال: كان إبراهيم عليه السلام يكنى "أبا الضيفان".

قالوا: ولما كان عمر تارخ خمسا وسبعين سنة ولد له إبراهيم عليه السلام، و "تاحور" و "هاران" وولد لهاران "لوط".

وعندهم أن إبراهيم عليه السلام هو الأوسط، وأن هاران مات في حياة أبيه في أرضه التي ولد فيها، وهي أرض الكلدانيين يعنون أرض بابل.

وهذا هو الصحيح المشهور عند أهل السير والتواريخ والأخبار، وصحح ذلك الحافظ ابن عساكر، بعدما روي من طريق هشام بن عمار، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول، عن ابن عباس قال: ولد إبراهيم بغوطة دمشق، في قرية يقال لها برزة، في جبل يقال له قاسيون. ثم قال: والصحيح أنه ولد ببابل. وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه إذ جاء معينا للوط عليه السلام.

قالوا: فتزوج إبراهيم سارة، وناحور "ملكا" ابنة هاران يعنون ابنة أخيه. قالوا وكانت سارة عاقرا لا تلد.

قالوا: وانطلق تارخ بابنه إبراهيم وامرأته سارة وابن أخيه لوط بن هاران، فخرج بهم من أرض الكلدانيين إلى أرض الكنعانيين، فنزلوا حران، فمات فيها تارخ وله مائتان وخمسون سنة. وهذا يدل على أنه لم يولد بحران، وإنما مولده بأرض الكلدانيين وهي أرض بابل وما والاها.

ثم ارتحلوا قاصدين أرض الكنعانيين، وهي بلاد بيت المقدس، فأقاموا بحران وهي أرض الكلدانيين في ذلك الزمان، وكذلك أرض الجزيرة والشام أيضا. وكانوا يعبدون الكواكب السبعة. والذين عمروا مدينة دمشق كانوا على هذا الدين، يستقبلون القطب الشمالي ويعبدون الكواكب السبعة بأنواع من الفعال والمقال. ولهذا كان على كل باب من أبواب دمشق السبعة القديمة هيكل لكوكب منها، ويعملون لها أعياد وقرابين.

وهكذا كان أهل حران يعبدون الكواكب والأصنام وكل من كان على وجه الأرض كانوا كفارا، سوى إبراهيم الخليل وامرأته وابن أخيه لوط عليهم السلام.

وكان الخليل عليه السلام هو الذي أزال الله به تلك الشرور وأبطل به ذاك الضلال، فإن الله سبحانه وتعالى آتاه رشده في صغره، وابتعثه رسولا، واتخذه خليلا في كبره، قال الله تعالى: ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين}. أي كان أهلا لذلك.

وقال تعالى: {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون، وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين، أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير، يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون، وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير، والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين، فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم، ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}.

ثم ذكر تعالى مناظرته لأبيه وقومه كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

وكان أول دعوته لأبيه، وكان أبوه ممن يعبد الأصنام، لأنه أحق الناس بإخلاص النصيحة له كما قال تعالى: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا، قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا}.

فذكر تعالى ما كان بينه وبين أبيه من المحاورة والمجادلة، وكيف دعا أباه إلى الحق بألطف عبارة وأحسن اشارة، بين له بطلان ما هو عليه من عبادة الأوثان التي لا تسمع دعاء عابدها ولا تبصر مكانه فكيف تغني عنه شيئا، أو تفعل به خيرا من رزق أو نصر؟ ثم قال له منبها على ما أعطاه الله من الهدى والعلم النافع وإن كان أصغر سنا من أبيه: {ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا} أي مستقيما واضحا، سهلا حنيفا، يفضي بك إلى الخير في دنياك وأخراك.

فلما عرض هذا الرشد عليه وأهدى هذه النصيحة إليه، لم يقبلها منه، ولا أخذها عنه، بل تهدده وتوعده قال: {أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك} قيل بالمقال وقيل بالفعال. {واهجرني مليا} أي واقطعني وأطل هجراني.

فعندها قال له إبراهيم: {سلام عليك} أي لا يصلك مني مكروه ولا ينالك مني أذى، بل أنت سالم من ناحيتي. وزاده خيرا فقال: {عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا}. قال ابن عباس وغيره: أي لطيفا، يعني في أن هداني لعبادته والإخلاص له. ولهذا قال: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا}.

وقد استغفر له إبراهيم عليه السلام كما وعده في أدعيته، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما قال تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم}.

وقال البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي عبد الحميد، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال يا إبراهيم انظر ما تحت رجليك؟ فينظر، فإذا هو بذبح متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار". هكذا رواه في قصة إبراهيم منفردا.

وقال في التفسير: وقال إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري، عن أبيه عن أبي هريرة.

وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن حفص بن عبد الله، عن أبيه، عن إبراهيم بن طهمان به. وقد رواه البزار عن حديث حماد بن سلمة عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ بنحوه، وفي سياقه غرابة. ورواه أيضا من حديث قتادة عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد عن النبي ﷺ بنحوه.

وقال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين} هذا يدل على أن اسم أبي إبراهيم آزر، وجمهور أهل النسب، منهم ابن عباس، على أن اسم أبيه تارخ. وأهل الكتاب يقولون تارخ بالخاء المعجمة، فقيل: إنه لقب بصنم كان يعبده اسمه آزر. وقال ابن جرير: والصواب أن اسمه آزر. ولعل له اسمان علمان، أو أحدهما لقب والآخر علم. وهذا الذي قاله محتمل. والله أعلم.

ثم قال تعالى: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون، وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون، وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}.

وهذا المقام مقام مناظرة لقومه، وبيان لهم أن هذه الأجرام المشاهدة من الكواكب النيرة، لا تصلح للألوهية، ولا أن تعبد مع الله عز وجل، لأنها مخلوقة مربوبة مصنوعة مدبرة مسخرة، تطلع تارة وتأفل أخرى، فتغيب عن هذا العالم، والرب تعالى لا يغيب عنه شيء ولا تخفى عليه خافية، بل هو الدائم الباقي بلا زوال، لا إله إلا هو ولا رب سواه.

فبين لهم أولا عدم صلاحية الكوكب لذلك قيل هو الزهرة، ثم ترقى منها إلى القمر الذي هو أضوأ منها، وأبهى من حسنها، ثم ترقى إلى الشمس التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياء وسناء وبهاء، فبين أنها مسخرة مسيرة مقدرة مربوبة، كما قال تعالى: {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}.

ولهذا قال: {فلما رأى الشمس بازغة} أي طالعة {قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين، وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا} أي لست أبالي هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله، فإنها لا تنفع شيئا ولا تسمع ولا تعقل، بل هي مربوبة مسخرة كالكواكب ونحوها، أو مصنوعة منحوتة منجورة.

والظاهرة أن موعظته هذه في الكواكب لأهل حران، فإنهم كانوا يعبدونها. وهذا يرد قول من زعم أنه قال هذا حين خرج من السرب لما كان صغيرا، كما ذكره ابن إسحاق وغيره وهو مستند إلى أخبار إسرائيلية لا يوثق بها، ولا سيما إذا خالفت الحق.

وأما أهل بابل فكانوا يعبدون الأصنام، وهم الذين ناظرهم في عبادتها وكسرها عليهم، وأهانها وبين بطلانها، كما قال تعالى: {وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين} وقال في سورة الأنبياء: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين، إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين، قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين، وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون، قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين، قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم، قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون، قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم، قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون، قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون، قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين}.

وقال في سورة الشعراء: {واتل عليهم نبأ إبراهيم، إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون، قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين، قال هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهديني، والذي هو يطعمني ويسقيني وإذا مرضت فهو يشفيني، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين، رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين}.

وقال تعالى في سورة الصافات: {وإن من شيعته لإبراهيم، إذ جاء ربه بقلب سليم، إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون، أئفكا آلهة دون الله تريدون، فما ظنكم برب العالمين، فنظر نظرة في النجوم، فقال إني سقيم، فتولوا عنه مدبرين، فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون، ما لكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضربا باليمين، فأقبلوا إليه يزفون، قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون، قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم، فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين}.

يخبر الله تعالى عن إبراهيم خليله عليه السلام، أنه أنكر على قومه عبادة الأوثان وحقرها عندهم وصغرها وتنقصها، فقال: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} أي معتكفون عندها وخاضعون لها، قالوا: {وجدنا آباءنا لها عابدين}. ما كان حجتهم إلا صنيع الأباء والأجداد، وما كانوا عليه من عبادة الأنداد.

{قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} كما قال تعالى: {إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون، أئفكا آلهة دون الله تريدون، فما ظنكم برب العالمين}. قال قتادة: فما ظنكم به أنه فاعل بكم إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟

وقال لهم: {هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون، قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون}. سلموا له أنها لا تسمع داعيا ولا تنفع ولا تضر شيئا، وإنما الحامل لهم على عبادتها الإقتداء بأسلافهم ومن هو مثلهم في الضلال من الأباء الجهال. ولهذا قال لهم: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} وهذا برهان قاطع على بطلان إلهية ما ادعوه من الأصنام، لأنه تبرأ منها، وتنقص بها، فلو كانت تضر لضرته، أو تؤثر لأثرت فيه.

{قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين} ويقولون: هذا الكلام الذي تقوله لنا وتنتقص به ألهتنا، وتطعن بسببه في آبائنا أتقوله محقا جادا فيه أم لاعبا؟

{قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين} يعني بل أقول لكم ذلك جادا محقا، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو ربكم ورب كل شيء، فاطر السماوات والأرض، الخالق لهما على غير مثال سبق. فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وأنا على ذلكم من الشاهدين.

وقوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين} أقسم ليكيدن هذه الأصنام التي يعبدونها بعد أن تولوا مدبرين إلى عيدهم.

قيل: إنه قال هذا خفية في نفسه. وقال ابن مسعود: سمعه بعضهم.

وكان لهم عيد يذهبون إليه في كل عام مرة إلى ظاهر البلد، فدعاه أبوه ليحضره فقال: إني سقيم. كما قال تعالى: {فنظر نظرة في النجوم، فقال إني سقيم}. عرض لهم في الكلام حتى توصل إلى مقصودة من إهانة أصنامهم ونصرة دين الله الحق وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي تستحق أن تكسر وأن تهان غاية الإهانة.

فلما خرجوا إلى عيدها، واستقر هو في بلدهم {فراغ إلى آلهتهم} أي ذهب إليها مسرعا مستخفيا، فوجدها في بهو عظيم، وقد وضعوا بين أيديها أنواعا من الأطعمة قربانا إليها فقال لها على سبيل التهكم والإزدراء {ألا تأكلون، ما لكم لا تنطقون، فراغ عليهم ضربا باليمين} لأنها أقوى وأبطش وأسرع وأقهر، فكسرها بقدوم في يده كما قال تعالى: {فجعلهم جذاذا}. أي حطاما، كسرها كلها {إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون}. قيل إنه وضع القدوم في يد الكبير، إشارة إلى أنه غار أن تعبد معه هذه الصغار!

فلما رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم {قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين}.

وهذا فيه دليل ظاهر لهم لو كانوا يعقلون، وهو ما حل بألهتهم التي كانوا يعبدونها، فلو كانت ألهة لدفعت عن أنفسها من أرادها بسوء لكنهم قالوا من جهلهم وقلة عقلهم وكثرة ضلالهم وخبالهم: {من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين}.

{قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم} أي يذكرها بالعيب والتنقص لها والإزدراء بها، فهو المقيم عليها والكاسر لها. وعلى قول ابن مسعود، أي يذكرهم بقوله: {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين}.

{قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون} أي في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد، لعلهم يشهدون مقالته ويسمعون كلامه، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه.

وكان هذا أكبر مقاصد الخليل عليه السلام أن يجتمع الناس كلهم، فيقيم على جميع عباد الأصنام الحجة على بطلان ما هم عليه، كما قال موسى عليه السلام لفرعون: {موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى}.

فلما اجتمعوا وجاءوا به كما ذكروا {قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم، قال بل فعله كبيرهم}. قيل معناه: هو الحامل لي على تكسيرهم وإنما عرض لهم في القول {فاسألوهم إن كانوا ينطقون}.

وإنما أراد بقوله هذا أن يبادر إلى القول بأن هذه لا تنطق، فيعترفوا بأنها جماد كسائر الجمادات.

{فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون}. أي فعادوا على أنفسهم بالملامة، فقالوا إنكم أنتم الظالمون. أي في تركها لا حافظ لها ولا حارس عندها.

{ثم نكسوا على رءوسهم}. قال السدي: أي ثم رجعوا إلى الفتنة، فعلى هذا يكون قوله: {إنكم أنتم الظالمون}. أي في عبادتها.

وقال قتادة: أدركت القوم حيرة سوء. أي فأطرقوا ثم قالوا: {لقد علمت ما هؤلاء ينطقون}. أي لقد علمت يا إبراهيم أن هذه لا تنطق، فكيف تأمرنا بسؤالها!

فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام: {أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون}.

كما قال: {فأقبلوا إليه يزفون} قال مجاهد: يسرعون.

(قال): {أتعبدون ما تنحتون} أي كيف تعبدون أصناما أنتم تنحتونها من الخشب والحجارة وتصورونها وتشكلونها كما تريدون {والله خلقكم وما تعملون}.

وسواء كانت "ما" مصدرية، أو بمعنى الذي، فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون، وهذه الأصنام مخلوقة، فكيف يتعبد مخلوق لمخلوق مثله؟ فإنه ليس عبادتكم لها بأولى من عبادتها لكم، وهذا باطل، فالآخر باطل للتحكم إذ ليست العبادة تصلح، ولا تجب إلا للخالق وحده لا شريك له.

{قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم، فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين}.

عدلوا عن الجدال والمناظرة لما انقطعوا وغلبوا، ولم تبق لهم حجة ولا شبهة إلى استعمال قوتهم وسلطانهم، لينصروا ما هم عليه من سفههم وطغيانهم، فكادهم الرب جل جلاله وأعلى كلمته ودينه وبرهانه، كما قال تعالى: {قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين، قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين}.

وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبا من جميع ما يمكنهم من الأماكن، فمكثوا مدة يجمعون له، حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق إبراهيم. ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة، فوضعوا فيها ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار فاضطربت وتأججت، والتهبت وعلا لها شرر لم ير مثله قط.

ثم وضعوا إبراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له "هزن" وكان أول من صنع المجانيق، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.

ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك.

فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيدا مكتوفا، ثم ألقوه منه إلى النار، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. كما روى البخاري عن ابن عباس أنه قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قيل له: {إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء} الآية.

وقال أبو يعلى: حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي جعفر الرازي، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال قال: ﷺ "لما ألقي إبراهيم في النار قال: اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك".

وذكر بعض السلف أن جبريل عرض له في الهواء فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال أما إليك فلا.

ويروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنه قال جعل ملك المطر يقول متى أومر فأرسل المطر؟ فكان أمر الله أسرع.

{قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم}. قال علي بن أبي طالب: أي لا تضريه.

وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله قال {وسلاما على إبراهيم} لآذى إبراهيم بردها.

وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار، ولم تحرق منه سوى وثاقه.

وقال الضحاك: يروي أن جبريل عليه السلام كان معه يمسح العرق عن وجهه لم يصبه منها شيء غيره.

وقال السدي: كان معه أيضا ملك الظل. وصار إبراهيم عليه السلام في ميل الجوبة حوله النار، وهو في روضة خضراء، والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول، ولا هو يخرج إليهم. فعن أبي هريرة أنه قال: أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال: نعم الرب ربك يا إبراهيم!

وروى ابن عساكر عن عكرمة أن أم إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته. يا بني أريد أن أجئ إليك فادع الله أن ينجيني من حر النار حولك. فقال: نعم فأقبلت إليه لا يمسها شيء من حر النار. فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته ثم عادت.

وعن المنهال بن عمرو أنه قال: أخبرت أن إبراهيم مكث هناك إما أربعين وإما خمسين يوما، وأنه قال: ما كنت أياما وليالي أطيب عيشا إذ كنت فيها. ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها. صلوات الله وسلامه عليه.

فأرادوا أن ينتصروا فخذلوا، وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا، وأرادوا أن يغلبوا فغلبوا. قال الله تعالى: {وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين}، وفي الآية الأخرى: {الأسفلين} ففازوا بالخسارة والسفال، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم بردا ولا سلاما، ولا يلقون تحية ولا سلاما، بل هي كما قال تعالى {إنها ساءت مستقرا ومقاما}.

قال البخاري: حدثنا عبد الله بن موسى، أو ابن سلام عنه، أنبأنا ابن جريج، عن عبد الحميد بن جبير، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريك أن رسول الله ﷺ "أمر بقتل الوزغ، وقال: كان ينفخ على إبراهيم". ورواه مسلم من حديث ابن جريج. وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة، كلاهما عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة به.

وقال أحمد: حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، أخبرني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي أمية، أن نافعا مولى ابن عمر أخبره أن عائشة أخبرته أن رسول الله ﷺ قال: "اقتلوا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم" قال فكانت عائشة تقتلهن. وقال أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب عن نافع، أن امرأة دخلت على عائشة فإذا رمح منصوب فقالت: ما هذا الرمح؟ فقالت: نقتل به الأوزاغ. ثم حدثت عن رسول الله ﷺ أن إبراهيم لما ألقي في النار جعلت الدواب كلها تطفئ عنه إلا الوزغ فإنه جعل ينفخها عليه. تفرد به أحمد من هذين الوجهين.

وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا جرير، حدثنا نافع، حدثتني سمامة مولاة الفاكه بن المغيرة، قالت: دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا موضوعا، فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح؟ قالت: هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن به، فإن رسول الله ﷺ: حدثنا أن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ عنه النار، غير الوزغ كان ينفخ عليه، فأمرنا رسول الله ﷺ: بقتله. ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس بن محمد عن جرير بن حازم به.
ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع النمرود

ذكر مناظرة إبراهيم الخليل مع من أراد أن ينازع العظيم الجليل في العظمة ورداء الكبرياء فادعى الربوبية، وهو أحد العبيد الضعفاء

قال الله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين}.

يذكر تعالى مناظرة خليله مع هذا الملك الجبار المتمرد الذي ادعى لنفسه الربوبية، فأبطل الخليل عليه دليله، وبين كثرة جهله، وقلة عقله، وألجمه الحجة، وأوضح له طريق المحجة.

قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار، وهذا الملك هو ملك بابل، واسمه النمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح قال مجاهد. وقال غيره: نمرود بن فالح بن عابر بن صالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح.

قال مجاهد وغيره: وكان أحد ملوك الدنيا، فإنه قد ملك الدنيا فيما ذكروا أربعة: مؤمنان وكافران. فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان. والكافران: النمرود وبختنصر.

وذكروا أن نمرود هذا استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان طغا وبغا، وتجبر وعتا، وآثر الحياة الدنيا.

ولما دعاه إبراهيم الخليل إلى عبادة الله وحده لا شريك له حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الصانع، فحاج إبراهيم الخليل في ذلك وادعى لنفسه الربوبية. فلما قال الخليل: (ربي الذي يحي ويميت قال: أنا أحي وأميت).

قال قتادة والسدي ومحمد بن إسحاق: يعني أنه إذا آتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما، وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات الآخر.

وهذا ليس بمعارضة للخليل، بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة، ليس بمنع ولا بمعارضة، بل هو تشغيب محض، وهو انقطاع في الحقيقة، فإن الخليل استدل على وجود الصانع بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وموتها، (هذا دليل) على وجود فاعل. (و) ذلك، الذي لا بد من استنادها إلى وجوده ضرورة عدم قيامها بنفسها، ولا بد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها وتسيير هذه الكواكب والرياح والسحاب والمطر وخلق هذه الحيوانات التي توجد مشاهدة، ثم إماتتها ولهذا قال إبراهيم: {ربي الذي يحيي ويميت}.

فقول هذا الملك الجاهل (أنا أحيي وأميت) إن عنى أنه الفاعل لهذه المشاهدات فقد كابر وعاند، وإن عنى ما ذكره قتادة والسدي ومحمد بن إسحاق فلم يقل شيئا يتعلق بكلام الخليل إذ لم يمنع مقدمة ولا عارض الدليل.

ولما كان انقطاع مناظرة هذا الملك قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلا آخر بين وجود الصانع وبطلان ما ادعاه النمرود وانقطاعه جهرة: قال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشرق كما سخرها خالقها ومسيرها وقاهرها. وهو الذي لا إله إلا هو خالق كل شيء. فإن كنت كما زعمت من أنك الذي تحي وتميت فأت بهذه الشمس من المغرب فإن الذي يحي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء ولا يمانع ولا يغالب بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت، وأنت تعلم وكل أحد، أنك لا تقدر على شيء من هذا بل أنت أعجز وأقل من أن تخلق بعوضة أو تنتصر منها.

فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبق له كلام يجيب الخليل به بل انقطع وسكت. ولهذا قال: {فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين}.

وقد ذكر السدي: أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم وبين النمرود، يوم خرج من النار، ولم يكن اجتمع به يومئذ، فكانت بينهما هذه المناظرة.

وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم: أن النمرود كان عنده طعام، وكان الناس يفدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة ولم يكن اجتمع به إلا يومئذ، فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس، بل خرج وليس معه شيء من الطعام.

فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال: اشغل أهلي إذا قدمت عليهم، فلما قدم: وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاما طيبا، فعملت منه طعاما. فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه؛ فقال: أنى لكم هذا؟ قالت: من الذي جئت به. فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل.

قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه. ثم دعاه الثانية فأبى عليه. ثم دعاه الثالثة فأبى عليه. وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي.

فجمع النمرود جيشه وجنوده، وقت طلوع الشمس فأرسل الله عليه ذبابا من البعوض، بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم، فأكلت لحومهم ودمائهم وتركتهم عظاما بادية، ودخلت واحدة منها في منخر الملك فمكثت في منخره أربعمائة سنة، عذبه الله تعالى بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله عز وجل بها.
ذكر هجرة الخليل عليه السلام إلى بلاد الشام، ودخوله الديار المصرية واستقراره في الأرض المقدسة

قال الله: {فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم، ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}.

وقال تعالى: {ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين، ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين، وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين}.

لما هجر قومه في الله وهاجر من بين أظهرهم وكانت امرأته عاقرا لا يولد لها، ولم يكن له من الولد أحد بل معه ابن أخيه لوط بن هاران بن آزر، وهبه الله تعالى بعد ذلك الأولاد الصالحين، وجعل في ذريته النبوة والكتاب، فكل نبي بعث بعده فهو من ذريته، وكل كتاب نزل من السماء على نبي من الأنبياء من بعده فعلى أحد نسله وعقبه، خلعة من الله وكرامة له، حين ترك بلاده وأهله وأقرباءه، وهاجر إلى بلد يتمكن فيها من عبادة ربه عز وجل، ودعوة الخلق إليه.

والأرض التي قصدها بالهجرة أرض الشام، وهي التي قال الله عز وجل: {إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين}.

قاله أبي بن كعب وأبو العالية وقتادة وغيرهم.

وروى العوفي عن ابن عباس قوله: {إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} مكة ألم تسمع إلى قوله {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين} وزعم كعب الأحبار أنها حران.

وقد قدمنا عن نقل أهل الكتاب أنه خرج من أرض بابل هو وابن أخيه لوط وأخوه ناحور وامرأة إبراهيم سارة، وامرأة أخيه "ملكا"، فنزلوا حران فمات تارح أبو إبراهيم بها.

وقال السدي: انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام، فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران، وقد طعنت على قومها في دينهم فتزوجها على أن لا يغيرها. رواه ابن جرير وهو غريب.

والمشهور أنها ابنة عمه هاران، الذي تنسب إليه حران.

ومن زعم أنها ابنة أخيه هاران أخت لوط كما حكاه السهيلي عن القتيبي والنقاش فقد أبعد النجعة، وقال بلا علم.

ومن ادعى أن تزويج بنت الأخ كان إذ ذاك مشروعا، فليس له على ذلك دليل. ولو فرض أن هذا كان مشروعا في وقت كما هو منقول عن الربانيين من اليهود فإن الأنبياء لا تتعاطاه والله أعلم. ثم المشهور أن إبراهيم عليه السلام لما هاجر من بابل خرج بسارة مهاجرا من بلاده كما تقدم والله أعلم.

وذكر أهل الكتاب: أنه لما قدم الشام أوحى الله إليه "إني جاعل هذه الأرض لخلفك من بعدك" فابتنى إبراهيم مذبحا لله شكرا على هذه النعمة، وضرب قبته شرقي بيت المقدس، ثم انطلق مرتحلا إلى التيمن، وأنه كان جوع، أي قحط وشدة وغلاء، فارتحلوا إلى مصر.

وذكروا قصة سارة مع ملكها، وأن إبراهيم قال لها: قولي أنا أخته وذكروا اخدام الملك إياها هاجر. ثم أخرجهم منها فرجعوا إلى بلاد التيمن يعني أرض بيت المقدس، وما والاها ومعه دواب وعبيد وأموال.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن محبوب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب عن محمد، عن أبي هريرة قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات اثنتان منهن في ذات الله قوله {إني سقيم} وقوله {بل فعله كبيرهم هذا} وقال بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له إن هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه وسأله عنها؟ فقال من هذه؟ قال: أختي فأتى سارة فقال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني.

فأرسل إليها فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده، فأخذ فقال ادعى الله لي ولا أضرك، فدعت الله فأطلق، ثم تناولها الثانية مثلها أو أشد، فقال "ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت فأطلقت. فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان وإنما أتيتموني بشيطان، فأخدمها هاجر.

فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده مهيم. فقالت: رد الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره، وأخدم هاجر.

قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء". تفرد به من هذا الوجه موقوفا.

وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار، عن عمرو بن علي الفلاس، عن عبد الوهاب الثقفي، عن هشام بن حسام، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات كل ذلك في ذات الله قوله {إني سقيم} وقوله {بل فعله كبيرهم هذا} وبينما هو يسير في أرض جبار من الجبابرة، إذ نزل منزلا فأتى الجبار فقيل له: إنه قد نزل هاهنا رجل معه امرأة من أحسن الناس. فأرسل إليه فسأله عنها فقال إنها أختي، فلما رجع إليها قال إن هذا سألني عنك؟ فقلت إنك أختي وإنه ليس اليوم مسلم غيري وغيرك وأنك أختي فلا تكذبيني عنده.

فانطلق بها، فلما ذهب يتناولها أخذ فقال: "ادعى الله لي ولا أضرك، فدعت له فأرسل، فذهب يتناولها فأخذ مثلها أو أشد منها.

فقال ادعي الله لي ولا أضرك فدعت فأرسل ثلاث مرات فدعا أدنى حشمه فقال: إنك لم تأتني بإنسان ولكن أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر.

فجاءت وإبراهيم قائم يصلي فلما أحس بها انصرف فقال: مهيم، فقالت: كفى الله كيد الظالم وأخدمني هاجر".

وأخرجاه من حديث هشام. ثم قال البزار: لا يعلم أسنده عن محمد عن أبي هريرة إلا هشام ورواه غيره موقوفا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن الحفص، عن ورقاء - هو أبو عمر اليشكري - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات قوله حين دعي إلى آلهتهم فقال {إني سقيم} وقوله {بل فعله كبيرهم هذا} وقوله لسارة "إنها أختي".

قال: ودخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك، أو جبار من الجبابرة، فقيل: دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس، قال: فأرسل إليه الملك أو الجبار من هذه معك؟ قال: أختي قال: فأرسل بها، قال: فأرسل بها إليه، وقال لا تكذبي قولي فإني قد أخبرته أنك أختي إن ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك.

فلما دخلت عليه قام إليها فأقبلت تتوضأ وتصلي، وتقول اللهم إن كنت تعلم إني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر، قال: فغط حتى ركض برجله.

قال أبو الزناد: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة "إنها قالت: اللهم أن يمت يقال هي قتلته، قال: فأرسل.

قال: ثم قام إليها، قال: فقامت تتوضأ وتصلي وتقول: اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر. قال فغط حتى ركض برجله، قال أبو الزناد وقال أبو سلمة عن أبي هريرة: إنها قالت اللهم أن يمت يقل هي قتلته، قال: فأرسل.

قال: فقال في الثالثة أو الرابعة: ما أرسلتم إلي إلا شيطانا أرجعوها إلى إبراهيم، وأعطوها هاجر.

قال: فرجعت فقالت لإبراهيم: أشعرت أن الله رد كيد الكافرين وأخدم وليدة! تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط الصحيح.

وقد رواه البخاري عن أبي اليمان، عن شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ به مختصرا.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ في كلمات إبراهيم الثلاث التي قالها: "ما منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله فقال: إني سقيم، وقال بل فعله كبيرهم هذا، وقال للملك حين أراد امرأته: هي أختي".

فقوله في الحديث "هي أختي"، أي في دين الله، وقوله لها: إنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك يعني زوجين مؤمنين غيري وغيرك، ويتعين حمله على هذا لأن لوطا كان معهم وهو نبي عليه السلام.

وقوله لها لما رجعت إليه: مهيم؟ معناه ما الخبر؟ فقالت: إن الله رد كيد الكافرين. وفي رواية الفاجر. وهو الملك، وأخدم جارية. وكان إبراهيم عليه السلام من وقت ذهب بها إلى الملك قام يصلي لله عز وجل ويسأله أن يدفع عن أهله، وأن يرد بأس هذا الذي أراد أهله بسوء، وهكذا فعلت هي أيضا، فلما أراد عدو الله، أن ينال منها أمرا قامت إلى وضوئها وصلاتها، ودعت الله عز وجل بما تقدم من الدعاء العظيم، ولهذا قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} فعصمها الله وصانها لعصمة عبده ورسوله وحبيبه وخليله إبراهيم عليه السلام.

وقد ذهب بعض العلماء إلى نبوة ثلاث نسوة سارة وأم موسى ومريم عليهن السلام. والذي عليه الجمهور أنهن صديقات رضي الله عنهن وأرضاهن.

ورأيت في بعض الآثار: أن الله عز وجل كشف الحجاب فيما بين إبراهيم عليه السلام وبينها، فلم يزل يراها منذ خرجت من عنده إلى أن رجعت إليه، وكان مشاهدا لها، وهي عند الملك، وكيف عصمها الله منه، ليكون ذلك أطيب لقلبه وأقر لعينه، وأشد لطمأنينته، فإنه كان يحبها حبا شديدا لدينها وقرابتها منه، وحسنها الباهر، فإنه قد قيل: إنه لم تكن امرأة بعد حواء إلى زمانها أحسن منها رضي الله عنها. ولله الحمد والمنة.

وذكر بعض أهل التواريخ أن فرعون مصر هذا كان أخا للضحاك الملك المشهور بالظلم، وكان عاملا لأخيه على مصر. ويقال كان اسمه سنان بن علوان بن عبيد بن عويج بن عملاق بن لاود بن سام بن نوح. وذكر ابن هشام في التيجان أن الذي أرادها عمرو بن امرئ القيس بن مايلون بن سبأ، وكان على مصر. نقله السهيلي والله أعلم.

ثم إن الخليل عليه السلام رجع من بلاد مصر إلى أرض التيمن، وهي الأرض المقدسة التي كان فيها، ومعه أنعام وعبيد ومال جزيل، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية.

ثم إن لوطا عليه السلام نزح بماله من الأموال الجزيلة بأمر الخليل له في ذلك إلى أرض الغور، المعروف بغور زغر فنزل بمدينة سدوم، وهي أم تلك البلاد في ذلك الزمان، وكان أهلها أشرارا كفارا فجارا.

وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم الخليل، فأمره أن يمد بصره، وينظر شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وبشره بأن هذه الأرض كلها سأجعلها لك ولخلفك إلى آخر الدهر، وسأكثر ذريتك حتى يصيروا بعدد تراب الأرض.

وهذه البشارة اتصلت بهذه الأمة بل ما كملت ولا كانت أعظم منها في هذه الأمة المحمدية. يؤيد ذلك قول رسول الله ﷺ: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها".

قالوا: ثم إن طائفة من الجبارين تسلطوا على لوط عليه السلام، فأسروه وأخذوا أمواله، واستاقوا أنعامه. فلما بلغ الخبر إبراهيم الخليل سار إليه في ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا فاستنقذ لوطا عليه السلام واسترجع أمواله وقتل من أعداء الله ورسوله خلقا كثيرا، وهزمهم وساق في آثارهم، حتى وصل إلى شمالي دمشق، وعسكر بظاهرها عند برزة، وأظن مقام إبراهيم إنما سمي لأنه كان موقف جيش الخليل والله أعلم.

ثم رجع مؤيدا منصورا إلى بلاده، وتلقاه ملوك بلاد بيت المقدس معظمين له مكرمين خاضعين، واستقر ببلاده صلوات الله وسلامه عليه.
ذكر مولد إسماعيل عليه السلام من هاجر

قال أهل الكتاب: إن إبراهيم عليه السلام سأل الله ذرية طيبة، وان الله بشره بذلك، وأنه لما كان لإبراهيم ببلاد المقدس عشرون سنة، قالت سارة لإبراهيم عليه السلام، إن الرب قد حرمني الولد، فادخل على أمتي هذه، لعل الله يرزقني منها ولدا.

فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم عليه السلام، فحين دخل بها حملت منه، قالوا: فلما حملت ارتفعت نفسها، وتعاظمت على سيدتها، فغارت منها سارة، فشكت ذلك إلى إبراهيم، فقال: لها افعلي بها ما شئت، فخافت هاجر فهربت، فنزلت عند عين هناك، فقال لها ملك من الملائكة، لا تخافي فإن الله جاعل من هذا الغلام الذي حملت خيرا، وأمرها بالرجوع، وبشرها أنها ستلد ابنا، وتسمية إسماعيل، ويكون وحش الناس، يده على الكل ويد الكل به، ويملك جميع بلاد اخوته، فشكرت الله عز وجل على ذلك.

وهذه البشارة إنما انطبقت على ولده محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإنه الذي به سادت العرب، وملكت جميع البلاد غربا وشرقا، وأتاها الله من العلم النافع والعمل الصالح ما لم تؤت أمة من الأمم قبلهم، وما ذاك إلا بشرف رسولها على سائر الرسل، وبركة رسالته ويمن بشارته وكماله فيما جاء به، وعموم بعثته لجميع أهل الأرض.

ولما رجعت هاجر وضعت إسماعيل عليه السلام.

قالوا: وولدته ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة.

ولما ولد إسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره بإسحاق من سارة، فخر لله ساجدا، وقال له وقد استجبت لك في إسماعيل وباركت عليه وكثرته ويمنته جدا كثيرا، ويولد له اثنا عشر عظيما. وأجعله رئيسا لشعب عظيم.

وهذه أيضا بشارة بهذه الأمة العظيمة، وهؤلاء الاثنا عشر عظيما هم الخلفاء الراشدون الاثنا عشر المبشر بهم في حديث عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة عن النبي ﷺ قال"يكون اثنا عشر أميرا" ثم قال كلمة لم أفهمها، فسألت أبي ما قال؟ قال: "كلهم من قريش" أخرجاه في "الصحيحين".

وفي رواية "لا يزال هذا الأمر قائما" وفي رواية (عزيزا حتى يكون اثنا عشر خليفة كلهم من قريش).

فهؤلاء منهم الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. ومنهم عمر بن عبد العزيز أيضا. ومنهم بعض بني العباس وليس المراد أنهم يكونون اثني عشر نسقا بل لا بد من وجودهم.

وليس المراد الأئمة الأثني عشر الذين يعتقد فيهم الرافضة الذين أولهم علي بن أبي طالب وأخرهم المنتظر بسرداب سامرا وهو محمد بن الحسن العسكري فيما يزعمون، فإن أولئك لم يكن فيهم أنفع من علي وابنه الحسن بن علي، حين ترك القتال وسلم الأمر لمعاوية، وأخمد نار الفتنة، وسكن رحى الحرب بين المسلمين، والباقون من جملة الرعايا لم يكن لهم حكم على الأمة في أمر من الأمور. وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا فذلك هوس في الرؤوس، وهذيان في النفوس لا حقيقة له ولا عين ولا أثر.

والمقصود أن هاجر عليها السلام لما ولد لها إسماعيل واشتدت غيرة سارة منها، وطلبت من الخليل أن يغيب وجهها عنها، فذهب بها وبولدها فسار بهما حتى وضعهما حيث مكة اليوم.

ويقال إن ولدها كان إذ ذاك رضيعا.

فلما تركهما هناك وولى ظهره عنهما، قامت إليه هاجر وتعلقت بثيابه وقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتدعنا هاهنا، وليس معنا ما يكفينا؟ فلم يجبها، فلما ألحت عليه وهو لا يجيبها، قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت فإذا لا يضيعنا.

وقد ذكر الشيخ أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله في كتاب النوادر: أن سارة غضبت على هاجر، فحلفت لتقطعن ثلاثة أعضاء منها، فأمرها الخليل أن تثقب أذنيها، وأن تخفضها فتبر قسمها.

قال السهيلي: فكانت أول من اختتن من النساء، وأول من ثقبت أذنها منهن، وأول من طولت ذيلها.
ذكر مهاجرة إبراهيم بابنه إسماعيل وأمه هاجر إلى جبال فاران وهي أرض مكة، وبنائه البيت العتيق

قال البخاري: قال عبد الله بن محمد - هو أبو بكر بن أبي شيبه - حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة، يزيد أحدهما عن الآخر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل، اتخذت منطقا لتعفى أثرها على سارة". ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء.

ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا؛ وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذا لا يضيعنا. ثم رجعت.

فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه فقال: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}.

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت بطن الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا ففعلت ذلك سبع مرات.

قال ابن عباس قال النبي ﷺ "فلذلك سعى الناس بينهما".

فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه، تريد نفسها.

ثم تسمعت فسمعت أيضا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه، أو قال بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف.

قال ابن عباس قال النبي ﷺ "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم". أو قال: "لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عينا معينا". قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن هاهنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.

وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم، أو أهل بيت من جرهم، مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائفا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على الماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا.

قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء عندنا. قالوا: نعم.

قال عبد الله بن عباس قال النبي ﷺ: "فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم.

وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك، زوجوه امرأة منهم.

وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل، يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بشر نحن في ضيق وشدة وشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه.

فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا كذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول لك غير عتبة بابك. قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك، وطلقها وتزوج منهم أخرى، ولبث عنهم إبراهيم ما شاء الله. ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه؟ فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عز وجل، فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء.

قال النبي ﷺ: "ولم يكن لهم يومئذ حب. ولو كان لهم حب لدعا لهم فيه" قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه.

قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك. قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.

ثم ما لبث عنهم ما شاء الله. ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا، كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد. ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك به ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها.

قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}.

قال: فجعلا يبنيان، حتى يدورا حول البيت، وهما يقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}.

ثم قال: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، حدثنا إبراهيم بن نافع، عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما كان من إبراهيم وأهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء. وذكر تمامه بنحو ما تقدم.

وهذا الحديث من كلام ابن عباس وموشح برفع بعضه، وفي بعضه غرابة، وكأنه مما تلقاه ابن عباس عن الإسرائيليات، وفيه أن إسماعيل كان رضيعا إذ ذاك.

وعند أهل التوراة أن إبراهيم أمره الله بأن يختن ولده إسماعيل، وكل من عنده من العبيد، وغيرهم، فختنهم، وذلك بعد مضي تسع وتسعين سنة من عمره، فيكون عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة، وهذا امتثال لأمر الله عز وجل في أهله، فيدل على أنه فعله على وجه الوجوب، ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أنه واجب على الرجال كما هو مقرر في موضعه.

وقد ثبت في الحديث الذي رواه البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا مغيرة بن عبد الرحمن القرشي، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ "اختتن إبراهيم النبي عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم".

تابعه عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي الزناد، وتابعه عجلان عن أبي هريرة، ورواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به.

وفي بعض الألفاظ: "اختتن إبراهيم بعد ما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم" والقدوم هو الآلة، وقيل: موضع.

وهذا اللفظ لا ينافي الزيادة على الثمانين. والله أعلم لما سيأتي من الحديث عند ذكر وفاته عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ "أنه قال اختتن إبراهيم وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة". رواه ابن حيان في "صحيحه".

وليس في هذا السياق ذكر قصة الذبيح، وأنه إسماعيل، ولم يذكر في قدمات إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث مرات، أولاهن بعد أن تزوج إسماعيل بعد موت هاجر، وكيف تركهم من حين صغر الولد على ما ذكر إلى حين تزويجه لا ينظر في حالهم. وقد ذكر أن الأرض كانت تنطوي له، وقيل إنه كان يركب البراق إذا سار إليهم، فكيف يتخلف عن مطالعة حالهم وهم في غاية الضرورة الشديدة والحاجة الأكيدة؟!

وكأن بعض هذا السياق متلقى من الإسرائيليات ومطرز بشيء من المرفوعات ولم يذكر فيه قصة الذبيح، وقد دللنا على أن الذبيح هو إسماعيل على الصحيح في سورة الصافات.
قصة الذبيح

قال الله تعالى: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهديني، رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم، فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين، وفديناه بذبح عظيم، وتركنا عليه في الآخرين، سلام على إبراهيم، كذلك نجزي المحسنين، إنه من عبادنا المؤمنين، وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين، وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين}.

يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولدا صالحا، فبشره الله تعالى بغلام حليم وهو إسماعيل عليه السلام، لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل. وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل، لأنه أول ولده وبكره.

وقوله {فلما بلغ معه السعي} أي شب وصار يسعى في مصالحه كأبيه. قال مجاهد: {فلما بلغ معه السعي} أي شب وارتحل وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل.

فلما كان هذا رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا. وفي الحديث عن ابن عباس مرفوعا "رؤيا الأنبياء وحي". قاله عبيد ابن عمير أيضا.

وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الوزير العزيز الذي جاءه على كبر، وقد طعن في السن بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر، وواد ليس به حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك وتركها هناك، ثقة بالله وتوكلا عليه، فجعل الله لهما فرجا ومخرجا، ورزقهما من حيث لا يحتسبان.

ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي قد أفرده عن أمر ربه، وهو بكره ووحيده، الذي ليس له غيره، أجاب ربه وامتثل أمره وسارع إلى طاعته.

ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه وأهون عليه، من أن يأخذه قسرا ويذبحه قهرا {قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى}.

فبادر الغلام الحليم، سر والده الخليل إبراهيم، فقال: {يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}. وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد.

قال الله تعالى: {فلما أسلما وتله للجبين} قيل: أسلما، أي استسلما لأمر الله وعزما على ذلك. وقيل: وهذا من المقدم والمؤخر، والمعنى {تله للجبين}، أي ألقاه على وجهه. قيل: أراد أن يذبحه من قفاه، لئلا يشاهده في حال ذبحه، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك. وقيل: بل أضجعه كما تضجع الذبائح، وبقي طرف جبينه لاصقا بالأرض. (وأسلما) أي سمى إبراهيم وكبر، وتشهد الولد للموت. قال السدي وغيره: أمر السكين على حلقه فلم تقطع شيئا، ويقال جعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس والله أعلم.

فعند ذلك نودي من الله عز وجل: {أن يا إبراهيم، قد صدقت الرؤيا}. أي قد حصل المقصود من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك. وبدلك ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان، ولهذا قال تعالى: {إن هذا لهو البلاء المبين}. أي الاختبار الظاهر البين.

وقوله: {وفديناه بذبح عظيم}. أي وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسره الله تعالى له من العوض عنه.

والمشهور عن الجمهور أنه كبش أبيض أعين أقرن، رآه مربوطا بسمرة في ثبير. قال الثوري عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا. وقال سعيد بن جبير: كان يرتع في الجنة حتى تشقق عنه ثبير، وكان عليه عهن أحمر. وعن ابن عباس: هبط عليه من ثبير كبش أعين، أقرن، له ثغاء، فذبحه، وهو الكبش الذي قربه ابن آدم فتقبل منه. رواه ابن أبي حاتم.

قال مجاهد: فذبحه بمنى وقال عبيد بن عمير ذبحه بالمقام.

فأما ما روي عن ابن عباس أنه كان وعلا. وعن الحسن أنه كان تيسا من الأروى، واسمه جرير، فلا يكاد يصح عنهما.

ثم غالب ما ها هنا من الآثار مأخوذ من الإسرائيليات. وفي القرآن كفاية عما جرى من الأمر العظيم والاختبار الباهر وأنه فدي بذبح عظيم، وقد ورد في الحديث أنه كان كبشا.

قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، حدثنا منصور، عن خاله نافع، عن صفية بنت شيبة قالت أخبرتني امرأة من بني سليم ولدت عامة أهل دارنا، قالت: أرسل رسول الله ﷺ إلى عثمان بن طلحة، وقالت مرة إنها سألت عثمان لم دعاك رسول الله ﷺ قال: "إني كنت رأيت قربي الكبش حين دخلت البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمرها فخمرها، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل المصلي".

قال سفيان: لم يزل قرنا الكبش في البيت حتى احترق البيت فاحترقا.

وكذا روى عن ابن عباس : أن رأس الكبش لم يزل معلقا عند ميزاب الكعبة قد يبس.

وهذا وحده دليل على أن الذبيح إسماعيل، لأنه كان هو المقيم بمكة. وإسحاق لا نعلم أنه قدمها في حال صغره والله أعلم.

وهذا هو الظاهر من القرآن بل كأنه نص على أن الذبيح هو إسماعيل لأنه ذكر قصة الذبيح، ثم قال بعده {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين}. ومن جعله حالا فقد تكلف، ومستنده انه إسحاق إنما هو إسرائيليات، وكتابهم فيه تحريف، ولا سيما هاهنا قطعا، ولا محيد عنه، فإن عندهم أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده، وفي نسخة من المعربة بكره إسحاق، فلفظة إسحاق هاهنا مقحمة مكذوبة مفتراة، لأنه ليس هو الوحيد ولا البكر. إنما ذاك إسماعيل.

وإنما حملهم على هذا حسد العرب، فإن إسماعيل أبو العرب الذين يسكنون الحجاز، الذين منهم رسول الله ﷺ وإسحاق والد يعقوب وهو إسرائيل، الذي ينتسبون إليه فأرادوا أن يجروا هذا الشرف إليهم، فحرفوا كلام الله وزادوا فيه، وهم قوم بهت، ولم يقروا بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

وقد قال بأنه إسحاق طائفة كثيرة من السلف وغيرهم. وإنما أخذوه والله أعلم من كعب الأحبار، أو من صحف أهل الكتاب.

وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى نترك لأجله ظاهر الكتاب العزيز، ولا يفهم هذا من القرآن، بل المفهوم، بل المنطوق، بل النص، عند التأمل على أنه إسماعيل.

وما أحسن ما استدل به ابن كعب القرظي على أنه إسماعيل، وليس بإسحاق من قوله {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} قال: فكيف تقع البشارة بإسحاق وانه سيولد له يعقوب، ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له؟

هذا لا يكون، لأنه يناقض البشارة المتقدمة والله أعلم.

وقد اعترض السهيلي على هذا الاستدلال بما حاصله أن قوله {فبشرناها بإسحاق } جملة تامة وقوله {ومن وراء إسحاق يعقوب} جملة أخرى ليست في حيز البشارة. قال لأنه لا يجوز من حيث العربية أن يكون مخفوضا، إلا أن يعاد معه حرف الجر، فلا يجوز أن يقال مررت بزيد ومن بعده عمر وحتى يقال ومن بعده بعمر. وقال: فقوله: {ومن وراء إسحاق يعقوب}. منصوب بفعل مضمر تقديره {ووهبنا لإسحاق يعقوب}.

وفي هذا الذي قاله نظر.

ورجح أنه إسحاق واحتج بقوله {فلما بلغ معه السعي} قال: وإسماعيل لم يكن عنده إنما كان في حال صغره هو وأمه بجبال مكة، فكيف يبلغ معه السعي؟

وهذا أيضا فيه نظر لأنه قد روي أن الخليل كان يذهب في كثير من الأوقات راكبا البراق إلى مكة، يطلع على ولده وابنه ثم يرجع والله تعالى أعلم.

فممن حكى القول عنه بأنه إسحاق كعب الأحبار. وروى عن عمر والعباس وعلي وابن مسعود ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي ومقاتل وعبيد بن عمير وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم وابن أبي بردة ومكحول وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبي الهذيل وابن سابط، وهو اختيار ابن جرير، وهذا عجب منه وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس.

ولكن الصحيح عنه - وعن أكثر هؤلاء - أنه إسماعيل عليه السلام. قال مجاهد وسعيد والشعبي ويوسف بن مهران وعطاء وغير واحد عن ابن عباس هو إسماعيل عليه السلام.

وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن قيس، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أنه قال: المفدى إسماعيل. وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه هو إسماعيل. وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عن الذبيح؟ فقال: الصحيح أنه إسماعيل عليه السلام.

قال ابن أبي حاتم وروى عن علي وابن عمر وأبي هريرة وأبي الطفيل وسعيد بن المسيب وسعيد ابن جبير والحسن ومجاهد والشعبي ومحمد بن كعب وأبي جعفر محمد بن علي وأبي صالح أنهم قالوا: الذبيح هو إسماعيل عليه السلام. وحكاه البغوي أيضا عن الربيع بن أنس والكلبي وأبي عمرو بن العلاء.

قلت وروي عن معاوية، وجاء عنه أن رجلا قال لرسول الله ﷺ يا ابن الذبيحين، فضحك رسول الله ﷺ.

وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ومحمد بن إسحاق بن يسار وكان الحسن البصري يقول: لا شك في هذا.

وقال محمد بن إسحاق عن بريدة عن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة إذ كان معه بالشام، يعني استدلاله بقوله بعد ذكر القصة: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} فقال له عمر: إن هذا الشيء ما كنت أنظر فيه وإني لأراه كما قلت.

ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه، وكان يرى أنه من علمائهم، قال: فسأله عمر بن عبد العزيز أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال إسماعيل والله يا أمير المؤمنين، وإن اليهود لتعلم بذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه، والفضل الذي ذكره الله منه لصبره، لما أمر به. فهم يجحدون ذلك، ويزعمون أنه إسحاق، لأن إسحاق أبوهم.

وقد ذكرنا هذه المسألة مستقصاة بأدلتها وآثارها في كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة.
ذكر مولد إسحاق عليه السلام

قال الله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين، وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين}.

وقد كانت البشارة به من الملائكة لإبراهيم وسارة، لما مروا بهما مجتازين ذاهبين إلى مدائن قوم لوط، ليدمروا عليهم، لكفرهم وفجورهم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

قال الله تعالى: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}.

وقال تعالى: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون، قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم، قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون، قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين، قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}.

وقال تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين، فقربه إليهم قال ألا تأكلون، فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم، فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم، قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم}.

يذكر تعالى: أن الملائكة قالوا، وكانوا ثلاثة جبريل وميكائيل واسرافيل، لما وردوا على الخليل، حسبهم أولا أضيافا، فعاملهم معاملة الضيوف، وشوى لهم عجلا سمينا، من خيار بقره، فلما قربه إليهم وعرض عليهم، لم ير لهم همة إلى الأكل بالكلية، وذلك لأن الملائكة ليس فيهم قوة الحاجة إلى الطعام (فنكرهم) إبراهيم وأوجس منهم خيفة {وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط} أي لندمر عليهم.

فاستبشرت عند ذلك سارة غضبا لله عليهم، وكانت قائمة على رؤوس الأضياف، كما جرت به عادة الناس من العرب وغيرهم، فلما ضحكت استبشارا بذلك قال الله تعالى: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} أي بشرتها الملائكة بذلك {فأقبلت امرأته في صرة} أي في صرخة {فصكت وجهها} أي كما يفعل النساء عند التعجب. وقالت: {يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا} أي كيف يلد مثلي وأنا كبيرة وعقيم أيضا، وهذا بعلي أي زوجي شيخا؟ تعجبت من وجود ولد، والحالة هذه، ولهذا قالت: {إن هذا لشيء عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد}.

وكذلك تعجب إبراهيم عليه السلام استبشارا بهذه البشارة وتثبيتا لها وفرحا بها: {قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون، قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين} أكدوا الخبر بهذه البشارة وقرروه معه فبشروهما {بغلام عليم}. وهو إسحاق أخو إسماعيل غلام عليم، مناسب لمقامه وصبره، وهكذا وصفه ربه بصدق الوعد والصبر. وقال في الآية الأخرى {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}.

وهذا مما استدل به محمد بن كعب القرظي وغيره على أن الذبيح هو إسماعيل، وأن إسحاق لا يجوز أن يؤمر بذبحه بعد أن وقعت عليه البشارة بوجوده ووجود ولده يعقوب المشتق من العقب من بعده.

وعند أهل الكتاب أنه أحضر مع العجل الحنيذ وهو المشوي رغيفا من مكة فيه ثلاثة اكيال، وسمن ولبن. وعندهم أنهم أكلوا وهذا غلط محض. وقيل: كانوا يرون أنهم يأكلون، والطعام يتلاشى في الهواء.

وعندهم أن الله تعالى قال لإبراهيم: أما ساراي امرأتك فلا يدعى اسمها ساراي، ولكن اسمها سارة، وأبارك عليها وأعطيك منها ابنا، وأباركه ويكون الشعوب وملوك الشعوب منه، فخر إبراهيم على وجهه، يعني ساجدا، وضحك قائلا: في نفسه أبعد مائة سنة يولد لي غلام؟ أو سارة تلد؟ وقد أتت عليها تسعون سنة؟!

وقال إبراهيم لله تعالى ليت إسماعيل يعيش قدامك. فقال الله لإبراهيم بحقي إن امرأتك سارة تلد لك غلاما وتدعو اسمه إسحاق إلى مثل هذا الحين من قابل، وأوثقه ميثاقي إلى الدهر، ولخلفه من بعده، وقد استجبت لك في إسماعيل، وباركت عليه وكبرته ونميته جدا كثيرا، ويولد له اثنا عشر عظيما، وأجعله رئيسا لشعب عظيم.

وقد تكلمنا على هذا بما تقدم والله أعلم.

فقوله تعالى: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} دليل على أنها تستمتع بوجود ولدها إسحاق، ثم من بعده بولده يعقوب.

أي يولد في حياتهما لتقر أعينهما به كما قرت بولده. ولو لم يرد هذا لم يكن لذكر يعقوب وتخصيص التنصيص عليه من دون سائر نسل إسحاق فائدة، ولما عين بالذكر دل على أنهما يتمتعان به ويسران بولده كما سرا بمولد أبيه من قبله، وقال تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا}. وقال تعالى: {فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب}.

وهذا إن شاء الله ظاهر قوي ويؤيده ما ثبت في "الصحيحين". في حديث سليمان بن مهران الأعمش، عن إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة. قلت: ثم أي؟ قال: ثم حيث أدركت الصلاة فصل فكلها مسجد".

وعند أهل الكتاب أن يعقوب عليه السلام هو الذي أسس المسجد الأقصى، وهو مسجد إيليا بيت المقدس شرفه الله.

وهذا متجه، ويشهد له ما ذكرناه من الحديث، فعلى هذا يكون بناء يعقوب عليه السلام وهو إسرائيل بعد بناء الخليل، وابنه إسماعيل المسجد الحرام بأربعين سنة سواء، وقد كان بناؤهما ذلك بعد وجوب إسحاق لأن إبراهيم عليه السلام لما دعا قال في دعائه: كما قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم، ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون، ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء، رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}.

وما جاء في الحديث من أن سليمان بن داود عليهما السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثا كما ذكرناه عند قوله: {رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي}، وكما سنورده في قصته، فالمراد من ذلك والله أعلم أنه جدد بناءه كما تقدم من أن بينهما أربعين سنة، ولم يقل أحد إن بين سليمان وإبراهيم أربعين سنة سوى ابن حبان في تقاسيمه وأنواعه، وهذا القول لم يوافق عليه ولا سبق إليه.
ذكر بناية البيت العتيق

قال الله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}.

وقال تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}.

وقال تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين، وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود، وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير، وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}.

يذكر تعالى عن عبده ورسوله وصفيه وخليله إمام الحنفاء، ووالد الأنبياء إبراهيم عليه السلام أنه بنى البيت العتيق، الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس، يعبدون الله فيه وبوأه الله مكانه، أي أرشده إليه ودله عليه.

وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره أنه أرشد إليه بوحي من الله عز وجل. وقد قدمنا في صفة خلق السماوات، أن الكعبة بحيال البيت المعمور، بحيث أنه لو سقط لسقط عليها، وكذلك معابد السماوات السبع، كما قال بعض السلف: إن في كل سماء بيتا يعبد الله فيه أهل كل سماء، وهو فيها ككعبة لأهل الأرض.

فأمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام، أن يبني له بيتا يكون لأهل الأرض، كتلك المعابد لملائكة السماوات، وأرشده الله إلى مكان البيت المهيأ له، المعين لذلك منذ خلق السماوات والأرض، كما ثبت في "الصحيحين": "أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة".

ولم يجئ في خبر صحيح، عن معصوم، أن البيت كان مبنيا قبل الخليل عليه السلام. ومن تمسك في هذا بقوله {مكان البيت} فليس بناهض ولا ظاهر، لأن المراد مكانه المقدر في علم الله المقرر في قدرته، المعظم عند الأنبياء موضعه من لدن آدم إلى زمان إبراهيم.

وقد ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة وأن الملائكة قالوا له: قد طفنا قبلك بهذا البيت، وأن السفينة طافت به أربعين يوما، أو نحو ذلك، ولكن كل هذه الأخبار عن بني إسرائيل. وقد قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب فلا يحتج بها فأما إن ردها الحق فهي مردودة.

وقد قال الله: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين}. أي أول بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى البيت الذي ببكة. وقيل محل الكعبة {فيه آيات بينات} أي على أنه بناء الخليل والد الأنبياء ممن بعده، وإمام الحنفاء من ولده، الذين يقتدون به ويتمسكون بسنته، ولهذا قال: {مقام إبراهيم} أي الحجر الذي كان يقف عليه قائما لما ارتفع البناء عن قامته، فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ليرتفع عليه لما تعالى البناء، وعظم الفناء، كما ذكر في حديث ابن عباس الطويل.

وقد كان هذا الحجر ملصقا بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخره عن البيت قليلا، لئلا يشغل المصلين عنده الطائفين بالبيت، واتبع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا، فإنه قد وافقه ربه في أشياء، منها قوله لرسوله ﷺ لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}. وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أول الإسلام. وقد قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة:

وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ** وراق ليرقى في حراء ونازل

وبالبيت حق البيت من بطن مكة وبالله إن الله ليس بغافل

وبالحجر المسود إذ يمسحونه ** إذ اكتنفوه بالضحى والأصائل

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ** على قدميه حافيا غير ناعل

يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت، على قدر قدمه حافية لا منتعلة، ولهذا قال تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} أي في حال قولهما: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} فهما في غاية الإخلاص والطاعة لله عز وجل، وهما يسألان من الله عز وجل السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه من الطاعة العظيمة والسعي المشكور {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم}.

والمقصود أن الخليل بنى أشرف المساجد في أشرف البقاع في واد غير ذي زرع، ودعا لأهلها بالبركة وأن يرزقوا من الثمرات، مع قلة المياه وعدم الأشجار والزروع والثمار، وأن يجعله حرما محرما، وآمنا محتما.

فاستجاب الله وله الحمد له مسألته، ولبى دعوته وآتاه طلبته فقال تعالى: {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم} وقال تعالى: {أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا}.

وسأل الله أن يبعث فيهم رسولا منهم، أي من جنسهم وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصيحة، لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية سعادة الأولى والآخرة.

وقد استجاب الله له فبعث فيهم رسولا، وأي رسول ختم به أنبياءه ورسله، وأكمل له من الدين ما لم يؤت أحدا قبله وعم بدعوته أهل الأرض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم في سائر الأقطار والأمصار والأعصار إلى يوم القيامة، وكان هذا من خصائصه من بين سائر الأنبياء لشرفه على نفسه وكمال ما أرسل به، وشرف بقعته وفصاحة لغته، وكمال شفقته على أمته، ولطفه ورحمته وكريم محتده، وعظيم مولده وطيب مصدره ومورده.

ولهذا استحق إبراهيم الخليل عليه السلام إذ كان باني الكعبة لأهل الأرض، أن يكون منصبه ومحله وموضعه في منازل السماوات، ورفيع الدرجات عند البيت المعمور، الذي هو كعبة أهل السماء السابعة المبارك المبرور، الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه. ثم لا يعودون إليه إلى يوم البعث والنشور.

وقد ذكرنا في التفسير من سورة البقرة صفة بناية البيت، وما ورد في ذلك من الأخبار والآثار بما فيه الكفاية، فمن أراد فليراجعه ثم. ولله الحمد.

فمن ذلك ما قاله السدي: لما أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت، ثم لم يدريا أين مكانه؟ حتى بعث الله ريحا يقال له الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس، وذلك حين يقول تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت}.

فلما بلغا القواعد وبنيا الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني اطلب لي الحجر الأسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء، مثل النعامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن. فقال: يا أبتي من جاءك بهذا؟ قال جاء به من هو أنشط منك. فبنيا وهما يدعوان الله: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}.

وذكر ابن أبي حاتم: أنه بناه من خمسة أجبل، وأن ذا القرنين، وكان ملك الأرض إذ ذاك، مر بهما وهما يبنيانه، فقال: من أمركما بهذا؟ فقال إبراهيم: الله أمرنا به، فقال: وما يدريني بما تقول؟ فشهدت خمسة اكبش أنه أمره بذلك، فآمن وصدق. وذكر الأزرقي: أنه طاف مع الخليل بالبيت.

وقد كانت على بناء الخليل مدة طويلة، ثم بعد ذلك بنتها قريش، فقصرت بها عن قواعد إبراهيم من جهة الشمال، مما يلي الشام على ما هي عليه اليوم.

وفي "الصحيحين" من حديث مالك، عن ابن شهاب، عن سالم: أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عن ابن عمر، عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: "ألم تر أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال: لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت، وفي رواية: لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، أو قال: بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها الحجر".

وقد بناها ابن الزبير رحمه الله في أيامه، على ما أشار إليه رسول الله ﷺ حسبما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين عنه، فلما قتله الحجاج في سنة ثلاث وسبعين كتب إلى عبد الملك بن مروان الخليفة إذ ذاك فاعتقدوا أن ابن الزبير إنما صنع ذلك من تلقاء نفسه، فأمر بردها إلى ما كانت عليه فنقضوا الحائط الشامي وأخرجوا منها الحجر، ثم سدوا الحائط وردموا الأحجار في جوف الكعبة، فارتفع بابها الشرقي وسدوا الغربي بالكلية، كما هو مشاهد إلى اليوم.

ثم لما بلغهم أن ابن الزبير إنما فعل هذا لما أخبرته عائشة أم المؤمنين ندموا على ما فعلوا، وتأسفوا أن لو كانوا تركوه وما تولى من ذلك.

ثم لما كان في زمن المهدي بن المنصور استشار الإمام مالك بن أنس في ردها على الصفة التي بناها ابن الزبير فقال، له: إني أخشى أن يتخذها الملوك لعبة. يعني كلما جاء ملك بناها على الصفة التي يريد، فاستقر الأمر على ما هي عليه اليوم.
ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله إبراهيم

قال الله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} لما وفى ما أمره به ربه، من التكاليف العظيمة، جعله للناس إماما يقتدون به، ويأتمون بهديه، وسأل الله أن تكون هذه الإمامة متصلة بسببه، وباقية في نسبه، وخالدة في عقبه، فأجيب إلى ما سأل ورام، وسلمت إليه الإمامة بزمام، واستثنى من نيلها الظالمون، واختص بها من ذريته العلماء العاملون، كما قال تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين}. وقال تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين، وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين، ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم}.

فالضمير في قوله {ومن ذريته} عائد على إبراهيم على المشهور. ولوط وإن كان ابن أخيه إلا أنه دخل في الذرية تغليبا. وهذا هو الحامل للقائل الآخر: إن الضمير على نوح كما قدمنا في قصته والله أعلم.

وقال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب}. الآية. فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل فمن ذريته وشيعته. وهذه خلعة سنية لا تضاهي ومرتبة علية لا تباهى. وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان إسماعيل من هاجر ثم إسحاق من سارة، وولد له يعقوب، وهو إسرائيل، الذي ينتسب إليه سائر أسباطهم، فكانت فيهم النبوة وكثروا جدا بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم واختصهم بالرسالة والنبوة، حتى ختموا بعيسى ابن مريم من بني إسرائيل.

وأما إسماعيل عليه السلام فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها، كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى، ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق، وسيدهم، وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي المكي ثم المدني صلوات الله وسلامه عليه.

فلم يوجد من هذا الفرع الشريف، والغصن المنيف سوى هذه الجوهرة الباهرة، والدرة الزاهرة، وواسطة العقد الفاخرة، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع، ويغبطه الأولون والآخرون، يوم القيامة.

وقد ثبت عنه في "صحيح مسلم" كما سنورده أنه قال: "سأقوم مقاما يرغب إلى الخلق كلهم، حتى إبراهيم".

فمدح إبراهيم أباه مدحة عظيمة في هذا السياق، ودل كلامه على أنه أفضل الخلائق بعده عند الخلاق في هذه الحياة الدنيا ويوم يكشف عن ساق.

وقال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "كان رسول الله ﷺ يعوذ الحسن والحسين، ويقول: إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق. أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"، ورواه أهل السنن، من حديث منصور به.

وقال تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم}. ذكر المفسرون لهذا السؤال أسبابا بسطناها في التفسير، وقررناها بأتم تقرير.

والحاصل أن الله عز وجل أجابه إلى ما سأل، فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور، واختلفوا في تعيينها، على أقوال، والمقصود حاصل على كل تقدير، فأمره أن يمزق لحومهن وريشهن، ويخلط ذلك بعضه في بعض، ثم يقسمه قسما، ويجعل على كل جبل منهن جزءا، ففعل ما أمر به، ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن، فلما دعاهن جعل كل عضو يطير إلى صاحبه، وكل ريشة تأتي إلى أختها حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان عليه، وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشيء: كن فيكون، فأتين إليه سعيا، ليكون أبين له وأوضح لمشاهدته، من أن يأتين طيرانا.

ويقال: إنه أمر أن يأخذ رؤوسهن في يده فجعل كل طائر يأتي فيلقي رأسه فيتركب على جثته كما كان فلا إله إلا الله.

وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم قدرة الله تعالى على إحياء الموتى علما يقينا لا يحتمل النقيض، ولكن أحب أن يشاهد ذلك عيانا، ويترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، فأجابه الله إلى سؤاله وأعطاه غاية مأموله.

قال تعالى: {يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون، هاأنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين}.

ينكر تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في دعوى كل من الفريقين كون الخليل على ملتهم وطريقتهم، فبرأه الله منهم، وبين كثرة جهلهم وقلة عقلهم في قوله: {وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده } أي فكيف يكون على دينكم وأنتم إنما شرع لكم ما شرع بعده بمدد متطاولة، ولهذا قال: {أفلا تعقلون} إلى أن قال: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين}.

فبين أنه كان على دين الله الحنيف، وهو القصد إلى الإخلاص، والانحراف عمدا عن الباطل إلى الحق الذي هو مخالف لليهودية والنصرانية والمشركية.

كما قال تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا إلها واحدا ونحن له مسلمون، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون، وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون، قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون، أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}.

فنزه الله عز وجل خليله عليه السلام عن أن يكون يهوديا أو نصرانيا، وبين أنه إنما كان حنيفا مسلما، ولم يكن من المشركين، ولهذا قال تعالى: {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه} يعني الذين كانوا على ملته من أتباعه في زمانه ومن تمسك بدينه من بعدهم.

{وهذا النبي} يعني محمدا ﷺ. فإن الله شرع له الدين الحنيف الذي شرعه للخليل، وكمله الله تعالى له وأعطاه ما لم يعط نبيا ولا رسولا من قبله، كما قال تعالى: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}. وقال تعالى: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين، شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين، ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}.

وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي ﷺ لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت. ورأى إبراهيم وإسماعيل بأيديهما الأزلام فقال: "قاتلهم الله! والله إن يستقسما بالأزلام قط". لم يخرجه مسلم.

وفي بعض ألفاظ البخاري: "قاتلهم الله! لقد علموا أن شيخنا لم يستقسم بها قط".

وقوله {أمة} أي قدوة إماما مهتديا داعيا إلى الخير، يقتدى به فيه {قانتا لله} أي خاشعا له في جميع حالاته، وحركاته وسكناته {حنيفا} أي مخلصا على بصيرة{ولم يكن من المشركين، شاكرا لأنعمه} أي قائما بشكر ربه بجميع جوارحه من قلبه ولسانه وأعماله

{اجتباه} أي اختاره الله لنفسه واصطفاه لرسالته واتخذه خليلا، وجمع له بين خيري الدنيا والآخرة.

وقال تعالى: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} يرغب تعالى في إتباع إبراهيم عليه السلام، لأنه كان على الدين القويم والصراط المستقيم، وقد قام بجميع ما أمره به ربه ومدحه تعالى بذلك فقال: {وإبراهيم الذي وفى} واتخذه الله خليلا، والخلة هي غاية المحبة، كما قال بعضهم:

قد تخللت مسلك الروح مني ** ** وبذا سمي الخليل خليلا

وهكذا نال هذه المنزلة خاتم الأنبياء، وسيد الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبت في "الصحيحين" وغيرهما، من حديث جندب البجلي وعبد الله بن عمرو وابن مسعود عن رسول الله ﷺ أنه قال: "أيها الناس إن الله اتخذني خليلا".

وقال أيضا في آخر خطبة خطبها: "أيها الناس لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله". أخرجاه من حديث أبي سعيد.

وثبت أيضا من حديث عبد الله بن الزبير، وابن عباس وابن مسعود. وروى البخاري في "صحيحه": حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون قال: إن معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} فقال رجل من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم!

وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة، حدثنا عبد الله الحنفي، حدثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله ﷺ ينتظرونه، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، وإذا بعضهم يقول: عجب أن الله اتخذ من خلقه خليلا! فإبراهيم خليله، وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما! وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته! وقال آخر: آدم اصطفاه الله! فخرج عليهم فسلم وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم، أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى كليمه وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك. ألا وإني حبيب الله ولا فخر، ألا وإني أول شافع وأول مشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلقة باب الجنة، فيفتحه الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين، وأنا اكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر". هذا حديث غريب من هذا الوجه وله شواهد من وجوه أخر والله أعلم.

وروى الحاكم في "مستدركه" من حديث قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أتنكرون أن تكون الخلة لإبراهيم؟ والكلام لموسى؟ والرؤية لمحمد؟ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين".

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمود بن خالد السلمي، حدثنا الوليد، عن إسحاق بن يسار قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل حتى أن كان خفقان قلبه ليسمع من بعد كما يسمع خفقان الطير في الهواء.

وقال عبيد بن عمير: كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس، فخرج يوما يلتمس إنسانا يضيفه فلم يجد أحدا يضيفه، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما، فقال: يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني؟ قال: دخلتها بإذن ربها. قال: ومن أنت؟ قال: أنا ملك الموت، أرسلني ربي إلى عبد من عباده، أبشره بأن الله قد اتخذه خليلا، قال: من هو؟ فو الله إن أخبرتني به، ثم كان بأقصى البلاد لآتينه، ثم لا أبرح له جارا حتى يفرق بيننا الموت، قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا! قال: نعم. قال: فبم اتخذني ربي خليلا؟ قال: بأنك تعطي الناس ولا تسألهم. رواه ابن أبي حاتم.

وقد ذكره الله تعالى في القرآن كثيرا في غير ما موضع بالثناء عليه، والمدح له، فقيل: إنه مذكور في خمسة وثلاثين موضعا، منها خمسة عشر في البقرة وحدها.


قصص الانبياء لان كثير ج1. 5................




ذكر شيء من أخبار نوح نفسه عليه السلام

قال الله تعالى: {إنه كان عبدا شكورا}. قيل: أنه كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أسامة، حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها".

وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي أسامة.

والظاهر أن الشكور هو الذي يعمل بجميع الطاعات القلبية والقولية والعملية؛ فإن الشكر يكون بهذا وبهذا كما قال الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا
ذكر صومه عليه السلام

وقال ابن ماجة: باب صيام نوح عليه السلام: حدثنا سهل بن أبي سهل حدثنا سعيد بن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي فراس، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "صام نوح الدهر إلا يوم عيد الفطر ويوم الأضحى".

وهكذا رواه ابن ماجة عن طريق عبد الله بن لهيعة بإسناده ولفظه.

وقد قال الطبراني: حدثنا أبو الزنباع روح بن فرج، حدثنا عمر بن خالد الحراني، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي قتادة، عن يزيد عن رباح أبي فراس، أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "صام نوح الدهر إلا يوم الفطر والأضحى، وصام داود نصف الدهر، وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر، صام الدهر وأفطر الدهر".
ذكر حجه عليه السلام

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا أبي، عن زمعة - هو ابن أبي صالح - عن سلمة بن دهران، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: حج رسول الله ﷺ فلما أتى وادي عسفان قال: "يا أبا بكر أي واد هذا؟" قال هذا وادي عسفان. قال: "لقد مر بهذا نوح وهود وإبراهيم على بكران لهم حمر خطمهم الليف، أزرهم العباء وأرديتهم النمار يحجون البيت العتيق". فيه غرابة.
ذكر وصيته لولده عليه السلام

قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن الصقعب بن زهير، عن زيد بن أسلم - قال حماد: أظنه عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو قال: كنا عند رسول الله ﷺ فجاء رجل من أهل البادية عليه جبة سيحان مزرورة بالديباج فقال: "ألا إن صاحبكم هذا قد وضع كل فارس ابن فارس، أو قال: يريد أن يضع كل فارس ابن فارس، ورفع كل راع ابن راع". قال: فأخذ رسول الله ﷺ بمجامع جبته وقال: "ألا أرى عليك لباس من لا يعقل!" ثم قال: "أن نبي الله نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاص عليك وصية؛ آمرك باثنتين وأنهاك عن اثنتين: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله. ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة ضمتهن لا إله إلا الله، وبسبحان الله وبحمده. فإن بها صلات كل شيء، وبها يرزق الخلق. وأنهاك عن الشرك والكبر" قال: قلت - أو قيل - يا رسول الله، هذا الشرك قد عرفناه فما الكبر؟ أن يكون لأحدنا نعلان حسنتان لهما شراكان حسنان؟ قال "لا" قال: هو أن يكون لأحدنا حلة يلبسها؟ قال "لا" قال: هو أن يكون لأحدنا دابة يركبها؟ قال "لا" قال: هو أن يكون لأحدنا أصحاب يجلسون إليه؟ قال: "لا" قلت - أو قيل - يا رسول الله فما الكبر؟ قال: "سفه الحق وغمط الناس". وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.

ورواه أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله ﷺ قال: "كان في وصية نوح لابنه: أوصيك بخصلتين وأنهاك عن خصلتين" فذكر نحوه.

وقد رواه أبو بكر البزار عن إبراهيم بن سعيد، عن أبي معاوية الضرير عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن النبي ﷺ بنحوه. والظاهر أنه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، كما رواه أحمد والطبراني. والله أعلم.

ويزعم أهل الكتاب أن نوحا عليه السلام لما ركب في السفينة كان عمره ستمائة سنة. وقدمنا عن ابن عباس مثله، وزاد: وعاش بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين سنة، وفي هذا القول نظر. ثم إن لم يكن الجمع بينه وبين دلالة القرآن فهو خطأ محض. فإن القرآن يقتضي أن نوحا مكث في قومه بعد البعثة وقبل الطوفان ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون. ثم الله أعلم كم عاش بعد ذلك؟

فإن كان ما ذكر محفوظا عن ابن عباس - من أنه بعث وله أربعمائة وثمانون سنة، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة - فيكون قد عاش على هذا ألف سنة وسبعمائة وثمانين سنة.

وأما قبره عليه السلام: فروى ابن جرير والأزرقي عن عبد الرحمن بن سابط أو غيره من التابعين مرسلا، أن قبر نوح عليه السلام بالمسجد الحرام.

وهذا أقوى وأثبت من الذي يذكره كثير من المتأخرين، من أنه ببلدة بالبقاع تعرف اليوم بكرك نوح، وهناك جامع قد بني بسبب ذلك فيما ذكر. والله أعلم.
قصة هود عليه السلام

وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام.

ويقال أن هودا هو عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، ويقال هود بن عبد الله بن رباح الجارود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. ذكره ابن جرير.

وكان من قبيلة يقال لهم عاد بن عوص بن سام بن نوح. وكانوا عربا يسكنون الأحقاف - وهي جبال الرمل - وكانت باليمن بين عمان وحضرموت، بأرض مطلة على البحر يقال لها الشحر، واسم واديهم مغيث.

وكانوا كثيرا ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام، كما قال تعالى: {ألم ترى كيف فعل ربك بعاد، ارم ذات العماد } أي عاد ارم وهم عاد الأولى. وأما عاد الثانية فمتأخرة كما سيأتي بيان ذلك في موضعه.. وأما عاد الأولى فهم عاد {ارم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد} أي مثل القبيلة، وقيل مثل العمد. والصحيح الأولى كما بيناه في التفسير.

ومن زعم أن "ارم" مدينة تدور في الأرض، فتارة في الشام، وتارة في اليمن وتارة في الحجاز، وتارة في غيرها، فقد أبعد النجعة، وقال ما لا دليل عليه، ولا برهان يعول عليه، ولا مستند يركن إليه.

وفي صحيح ابن حبان عن أبي ذر في حديثه الطويل في ذكر الأنبياء والمرسلين قال فيه: "منهم أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيك يا أبا ذر".

ويقال أن هودا عليه السلام أول من تكلم بالعربية. وزعم وهب بن منبه أن أباه أول من تكلم بها. وقال غيره: أول من تكلم بها نوح. وقيل: آدم وهو الأشبه، وقيل غير ذلك. والله أعلم.

ويقال للعرب الذين كانوا قبل إسماعيل عليه السلام، العرب العاربة، وهم قبائل كثيرة: منهم عاد، وثمود، وجرهم، وطسم، وجميس، وأميم، ومدين، وعملاق، وعبيل، وجاسم، وقحطان، وبنو يقطن، وغيرهم.

وأما العرب المستعربة فهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل وكان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة وكان قد أخذ كلام العرب من جرهم الذين نزلوا عند أمه هاجر بالحرم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى، ولكن أنطقه الله بها في غاية الفصاحة والبيان. وكذلك كان يتلفظ بها رسول الله ﷺ.

والمقصود أن عادا - وهم عاد الأولى - كانوا أول من عبد الأصنام بعد الطوفان. وكانت أصنامهم ثلاثة: صدا، وصمودا، وهرا.

فبعث الله فيهم أخاهم هودا عليه السلام فدعاهم إلى الله، كما قال تعالى بعد ذكر قوم نوح، وما كان من أمرهم في سورة الأعراف: {وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون، قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين، أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون، قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين، فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين}.

وقال تعالى بعد ذكر قصة نوح في سورة هود: {وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون، يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون، ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين، قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون، من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم، فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ، وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد، وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود}.

وقال تعالى في سورة {قد أفلح المؤمنون} بعد قصة قوم نوح: {ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين، فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون، وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون، أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون، إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين، قال رب انصرني بما كذبوني، قال عما قليل ليصبحن نادمين، فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين}.

وقال الله تعالى في سورة الشعراء بعد قصة قوم نوح أيضا: {كذبت عاد المرسلين، إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعوني، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعوني، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين، إن هذا إلا خلق الأولين، وما نحن بمعذبين، فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.

وقال تعالى في سورة حم السجدة: {فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون، فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون}.

وقال تعالى في سورة الأحقاف: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون، فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين}.

وقال تعالى في الذاريات {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}

وقال تعالى في النجم: {وأنه أهلك عادا الأولى، وثمود فما أبقى، وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى، والمؤتفكة أهوى، فغشاها ما غشى، فبأي آلاء ربك تتمارى}.

وقال تعالى في سورة اقتربت: {كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر، إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر، تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر، فكيف كان عذابي ونذر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}.

وقال في الحاقة: {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية}.

وقال في سورة الفجر: {ألم ترى كيف فعل ربك بعاد، ارم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد}.

وقد تكلمنا على كل من هذه القصص في أماكنها من كتابنا التفسير. ولله الحمد والمنة.

وقد جرى ذكر عاد في سورة براءة وإبراهيم والفرقان والعنكبوت وفي سورة ص، وفي سورة ق.

ولنذكر مضمون القصة مجموعا من هذه السياقات، مع ما يضاف إلى ذلك من الأخبار.

وقد قدمنا أنهم أول الأمم الذين عبدوا الأصنام بعد الطوفان. وذلك بين في قوله لهم: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة} أي جعلهم أشد أهل زمانهم في الخلقة والشدة والبطش. وقال في المؤمنون: {ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين} وهم قوم هود على الصحيح.

وزعم آخرون أنهم ثمود لقوله: {فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء}. قالوا: وقوم صالح هم الذين أهلكوا بالصيحة {وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية}. وهذا الذي قالوه لا يمنع من اجتماع الصيحة والريح العاتية عليهم كما سيأتي في قصة أهل مدين أصحاب الأيكة، فإنه اجتمع عليهم أنواع من العقوبات. ثم لا خلاف أن عادا قبل ثمود.

والمقصود أن عادا كانوا جفاة كافرين، عتاة متمردين في عبادة الأصنام، فأرسل الله فيهم رجلا منهم يدعوهم إلى الله وإلى إفراده بالعبادة والإخلاص له، فكذبوه وخالفوه وتنقصوه، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

فلما أمرهم بعبادة الله ورغبهم في طاعته واستغفاره، ووعدهم على ذلك خير الدنيا والآخرة، وتوعدهم على مخالفة ذلك عقوبة الدنيا والآخرة {قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة} أي هذا الأمر الذي تدعونا إليه سفه بالنسبة إلى ما نحن عليه من عبادة هذه الأصنام التي يرتجى منها النصر والرزق، ومع هذا نظن أنك تكذب في دعواك أن الله أرسلك.

{قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين}. أي ليس الأمر كما تظنون ولا ما تعتقدون: {أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين}. والبلاغ يستلزم عدم الكذب في أصل المبلغ، وعدم الزيادة فيه والنقص منه، ويستلزم أداءه بعبارة فصيحة وجيزة جامعة مانعة لا لبس فيها ولا اختلاف ولا اضطراب.

وهو مع هذا البلاغ على هذه الصفة في غاية النصح لقومه والشفقة عليهم، والحرص على هدايتهم، لا يبتغي منهم أجرا، ولا يطلب منهم جعلا، بل هو مخلص لله عز وجل في الدعوة إليه، والنصح لخلقه، لا يطلب أجره إلا من الذي أرسله، فإن خير الدنيا والآخرة كله في يديه، وأمره إليه، ولهذا قال: {يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون} أي أما لكم عقل تميزون به وتفهمون أني أدعوكم إلى الحق المبين الذي تشهد به فطركم التي خلقتم عليها، وهو دين الحق الذي بعث الله به نوحا وهلك من خالفه من الخلق. وها أنا أدعوكم إليه ولا أسألكم أجرا عليه، بل أبتغي ذلك عند الله مالك الضر والنفع. ولهذا قال مؤمن {يس} {اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون}.

وقال قوم هود له فيما قالوا: {يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين، إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} يقولون ما جئتنا بخارق يشهد لك بصدق ما جئت به، وما نحن بالذين نترك عبادة أصنامنا عن مجرد قولك؛ بلا دليل أقمته ولا برهان نصبته، وما نظن إلا أنك مجنون فيما تزعمه. وعندنا أنه إنما أصابك هذا لأن بعض آلهتنا غضب عليك فأصابك في عقلك فاعتراك جنون بسبب ذلك. وهو قولهم: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء}.

{قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون}.

وهذا تحد منه لهم، وتبرأ من آلهتهم وتنقص منه لها، وبيان أنها لا تنفع شيئا ولا تضر، وأنها جماد حكمها حكمه وفعلها فعله. فإن كانت كما تزعمون من أنها تنصر وتنفع وتضر فها أنا بريء منها لاعن لها {فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون} أنتم جميعا بجميع ما يمكنكم أن تصلوا إليه وتقدروا عليه، ولا تؤخروني ساعة واحدة ولا طرفة عين فإني لا أبالي بكم ولا أفكر فيكم، ولا أنظر إليكم. {إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم} أي أنا متوكل على الله ومتأيد به، وواثق بجنابه الذي لا يضيع من لاذ به واستند إليه، فلست أبالي مخلوقا سواه، لست أتوكل إلا عليه ولا أعبد إلا إياه.

وهذا وحده برهان قاطع على أن هودا عبد الله ورسوله، وأنهم على جهل وضلال في عبادتهم غير الله؛ لأنهم لم يصلوا إليه بسوء ولا نالوا منه مكروها. فدل على صدقه فيما جاءهم به، وبطلان ما هم عليه وفساد ما ذهبوا إليه.

وهذا الدليل بعينه قد استدل به نوح عليه السلام قبله في قوله: {يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون}.

وهكذا قال الخليل عليه السلام: {ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون، وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم}.

{وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون، ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون، أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون}.

استبعدوا أن يبعث الله رسولا بشريا. وهذه الشبهة أدلى بها كثير من جهلة الكفرة قديما وحديثا، كما قال تعالى: {أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس} وقال تعالى: {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا، قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا}.

ولهذا قال لهم هود عليه السلام: {أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم} أي ليس هذا بعجيب: فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته.

وقوله: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون، هيهات هيهات لما توعدون، إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين، قال رب انصرني بما كذبون} استبعدوا الميعاد وأنكروا قيام الأجساد بعد صيرورتها ترابا وعظاما، وقالوا: {هيهات هيهات}، أي بعيد بعيد هذا الوعد، {إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين} أي يموت قوم ويحيا آخرون. وهذا هو اعتقاد الدهرية، كما يقول بعض الجهلة من الزنادقة: أرحام تدفع وأرض تبلع.

وأما الدورية فهم الذين يعتقدون أنهم يعودون إلى هذه الدار بعد كل ستة وثلاثين ألف سنة.

وهذا كله كذب وكفر وجهل وضلال، وأقوال باطلة وخيال فاسد بلا برهان ولا دليل، يستميل عقل الفجرة الكفرة من بني آدم الذين لا يعقلون ولا يهتدون، كما قال تعالى: {ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون}.

وقال لهم فيما وعظهم به: {أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون}. يقول لهم: أتبنون بكل مكان مرتفع بناء عظيما هائلا كالقصور ونحوها، تعبثون ببنائها لأنه لا حاجة لكم فيه، وما ذاك إلا لأنهم كانوا يسكنون الخيام، كما قال تعالى: {ألم ترى كيف فعل ربك بعاد، ارم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد} فعاد ارم هم عاد الأولى الذين كانوا يسكنون الأعمدة التي تحمل الخيام.

ومن زعم أن "ارم" مدينة من ذهب وفضة وهي تنتقل في البلاد، فقد غلط وأخطأ، وقال ما لا دليل عليه.

وقوله: {وتتخذون مصانع} قيل هي القصور، وقيل بروج الحمام وقيل مآخذ الماء {لعلكم تخلدون} أي رجاء منكم أن تعمروا في هذه الدار أعمارا طويلة {وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعوني، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم}.

وقالوا له مما قالوا: {أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} أي جئتنا لنعبد الله وحده، ونخالف آباءنا وأسلافنا وما كانوا عليه؟ فإن كنت صادقا فيما جئت به فأتنا بما تعدنا من العذاب والنكال، فإنا لا نؤمن بك ولا نتبعك ولا نصدقك.

كما قالوا: {سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين، إن هذا إلا خلق الأولين، وما نحن بمعذبين}. أما على قراءة فتح الخاء، فالمراد به اختلاق الأولين، أي أن هذا الذي جئت به إلا اختلاق منك، أخذته من كتب الأولين. هكذا فسره غير واحد من الصحابة والتابعين. وأما على قراءة ضم الخاء واللام - فالمراد به الدين، أي أن هذا الدين الذي نحن عليه إلا دين الأباء والأجداد من الأسلاف، ولن نتحول عنه ولا نتغير، ولا نزال متمسكين به.

ويناسب كلا القراءتين الأولى والثانية قولهم: {وما نحن بمعذبين}.

قال: {قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين} أي قد استحققتم بهذه المقالة الرجس والغضب من الله، أتعارضون عبادة الله وحده لا شريك له بعبادة أصنام أنتم نحتموها وسميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم؟ اصطلحتم عليها أنتم وآباؤكم، ما نزل الله بها من سلطان. أي لم ينزل على ما ذهبتم إليه دليلا ولا برهانا. وإذ أبيتم قبول الحق وتماديتم في الباطل، وسواء عليكم أنهيتكم عما أنتم فيه أم لا، فانتظروا الآن عذاب الله الواقع بكم، وبأسه الذي لا يرد ونكاله الذي لا يصد.

وقال تعالى: {قال رب انصرني بما كذبوني، قال عما قليل ليصبحن نادمين، فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين} وقال تعالى: {قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون، فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين}.

وقد ذكر الله تعالى خبر إهلاكهم في غير آية كما تقدم مجملا ومفصلا، كقوله: {فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين} وكقوله: {ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ، وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد، وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود}. وكقوله: {فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين} وقال تعالى: {فكذبوه فأهلكناهم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.

وأما تفصيل إهلاكهم فلما قال تعالى: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} كان هذا أول ما ابتدأهم العذاب، أنهم كانوا ممحلين مسنتين، فطلبوا السقيا فرأوا عارضا في السماء وظنوه سقيا رحمة، فإذا هو سقيا عذاب. ولهذا قال تعالى: {بل هو ما استعجلتم به} أي من وقوع العذاب وهو قولهم: {فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} ومثلها في الأعراف.

وقد ذكر المفسرون وغيرهم هاهنا الخبر الذي ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار قال: فلما أبوا إلا الكفر بالله عز وجل، أمسك عنهم القطر ثلاث سنين، حتى جهدهم ذلك قال: وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان فطلبوا من الله الفرج منه إنما يطلبونه بحرمة ومكان بيته. وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان، وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال إنه معاوية بن بكر، وكانت أمه من قوم عاد واسمها جلهدة ابنة الخيبري. قال: فبعث عاد وفدا قريبا من سبعين رجلا ليستسقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة، فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا، يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان، قينتان لمعاوية وكانوا قد وصلوا إليه في شهر. فلما طال مقامهم عنده، وأخذته شفقة على قومه، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف - عمل شعرا يعرض لهم فيه بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنيهم به، فقال:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم ** لعل الله يمنحنا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا ** قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو * به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير ** فقد أمست نساؤهم أيامى

وإن الوحش يأتيهم جهارا ** ولا يخشى لعادي سهاما

وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم ** نهاركم وليلكم تماما

فقبح وفدكم من وفد قوم ** ولا لقوا التحية والسلاما

قال: فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم ودعوا لقومهم، فدعا داعيهم وهو قيل بن عنز، فأنشأ الله سحابات ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: اختر لنفسك أو لقومك من هذا السحاب، فقال: اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء، فناداه مناد: اخترت رماد رمددا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والدا يترك ولا ولدا إلا جعلته همدا إلا بني اللوذية الهمدا. قال وهم من بطن عاد كانوا مقيمين بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم. قال: ومن بقي من أنسابهم وأعقابهم هم عاد الآخرة.

قال: وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا، وقالوا هذا عارض ممطرنا، فيقول تعالى: {بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها} أي تهلك كل شيء أمرت به.

فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها "مهد" فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت. فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا مهد؟ قالت رأيت ريحا فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، والحسوم الدائمة؛ فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك.

قال: واعتزل هود عليه السلام - فيما ذكر لي - في حظيرة هو ومن معه من المؤمنين، ما يصيبهم إلا ما تلين عليه الجلود، وتلذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالظعن فيما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وذكر تمام القصة.

وقد روى الإمام أحمد حديثا في "مسنده" يشبه هذه القصة فقال: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن الحارث - وهو ابن حسان - ويقال ابن زيد البكري، قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله ﷺ فمررت بالربذة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله ﷺ حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله ﷺ ، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها.

قال: فجلست، قال: فدخل منزله - أو قال رحله - فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت فسلمت فقال: "هل كان بينكم وبين بني تميم شيء"؟ فقلت: نعم. وكانت لنا الدائرة عليهم ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب. فأذن لها فدخلت، فقلت يا رسول الله: إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزا، فاجعل الدهناء، فإنها كانت لنا، قال: فحميت العجوز واستوفزت وقالت: يا رسول الله، فإلى أين يضطر مضطرك؟ قال: فقلت: إن مثلي ما قال الأول: "معزى حملت حتفها" حملت هذه الأمة ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد، قال: هيه وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث مني ولكن يستطعمه. قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر، وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه. فمرت به سحابات سود، فنودي: منها اختر. فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: خذها رمادا رمددا، لا تبقي من عاد أحدا. قال: فلما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا كقدر ما يجري في خاتمي هذا من الريح حتى هلكوا.

قال أبو وائل: وصدق، وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد.

وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب به. ورواه النسائي من حديث سلام أبي المنذر عن عاصم بن بهدلة، ومن طريقه رواه ابن ماجة. وهكذا أورد هذا الحديث وهذه القصة عند تفسير هذه القصة غير واحد من المفسرين كابن جرير وغيره.

وقد يكون هذا السياق لإهلاك عاد الآخرة؛ فإن فيما ذكره ابن إسحاق وغيره ذكر لمكة، ولم تبن إلا بعد إبراهيم الخليل، حين أسكن فيها هاجر وابنه إسماعيل، فنزلت جرهم عندهم كما سيأتي، وعاد الأولى قبل الخليل، وفيه ذكر معاوية بن بكر وشعره، وهو من الشعر المتأخر عن زمان عاد الأولى، ولا يشبه كلام المتقدمين. وفيه أن في تلك السحابة شرر نار، وعاد الأولى إنما أهلكوا بريح صرصر. وقد قال ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من أئمة التابعين: هي الباردة، والعاتية الشديد الهبوب.

{سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما} أي كوامل متتابعات. قيل كان أولها الجمعة، وقيل الأربعاء.

{فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية} شبههم بأعجاز النخل التي لا رؤوس لها، وذلك لأن الريح كانت تجيء إلى أحدهم فتحمله فترفعه في الهواء؛ ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى جثة بلا رأس، كما قال: {إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر} أي في يوم نحس عليهم، مستمر عذابه عليهم.

{تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر} ومن قال أن اليوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء وتشاءم به لهذا الفهم، فقد أخطأ وخالف القرآن؛ فإنه قال في الآية الأخرى: {فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات} ومعلوم أنها ثمانية أيام متتابعات، فلو كانت نحسات في أنفسها لكانت جميع الأيام السبعة المندرجة فيها مشئومة، وهذا لا يقوله أحد، وإنما المراد في أيام نحسات، أي عليهم.

وقال تعالى: {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم} أي التي لا تنتج خيرا، فإن الريح المفردة لا تثير سحابا ولا تلقح شجرا، بل هي عقيم لا نتيجة خير لها، ولهذا قال: {ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} أي كالشيء البالي الفاني الذي لا ينتفع به بالكلية.

وقد ثبت في "الصحيحين" من حديث شعبة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس عن رسول الله ﷺ أنه قال: "نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور".

وأما قوله تعالى: {واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} فالظاهر أن عادا هذه هي عاد الأولى؛ فإن سياقها شبيه بسياق قوم هود وهم الأولى. ويحتمل أن يكون المذكورون في هذه القصة هم عاد الثانية. ويدل على ما ذكرنا وما سيأتي من الحديث عن عائشة رضي الله عنها.

وأما قوله: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا} فإن عادا لما رأوا هذا العارض وهو الناشئ في الجو كالسحاب ظنوه سحاب مطر، فإذا هو سحاب عذاب. اعتقدوه رحمة فإذا هو نقمة رجوا فيه الخير فنالوا منه غاية الشر. قال تعالى: {بل هو ما استعجلتم به} أي من العذاب، ثم فسره بقوله: {ريح فيها عذاب أليم} يحتمل أن ذلك العذاب هو ما أصابهم من الريح الصرصر العاتية الباردة الشديدة الهبوط، التي استمرت عليهم سبع ليال بأيامها الثمانية فلم تبق منهم أحدا، بل تتبعتهم حتى كانت تدخل عليهم كهوف الجبال والغيران فتلفهم وتخرجهم وتهلكهم، وتدمر عليهم البيوت المحكمة والقصور المشيدة، فكما منوا بشدتهم وبقوتهم وقالوا: من أشد منا قوة؟ سلط الله عليهم ما هو أشد منهم قوة، وأقدر عليهم، وهو الريح العقيم.

ويحتمل أن هذه الريح أثارت في آخر الأمر سحابة، ظن من بقي منهم أنها سحابة فيها رحمة بهم وغياث لمن بقي منهم، فأرسلها الله عليهم شررا ونارا. كما ذكره غير واحد. ويكون هذا كما أصاب أصحاب الظلة من أهل مدين، وجمع لهم بين الريح الباردة وعذاب النار، وهو أشد ما يكون من العذاب بالأشياء المختلفة المتضادة، مع الصيحة التي ذكرها في سورة قد أفلح المؤمنون. والله أعلم.

وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن يحيى بن الضريس، حدثنا ابن فضيل عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: "ما فتح الله على عاد من الريح التي أهلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم، فمرت بأهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد، الريح وما فيها {قالوا هذا عارض ممطرنا} فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة.

وقد رواه الطبراني عن عبدان بن أحمد، عن إسماعيل بن زكريا الكوفي، عن أبي مالك، عن مسلم الملائي، عن مجاهد وسعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: "ما فتح الله على عاد من الريح إلا مثل موضع الخاتم، ثم أرسلت عليهم البدو إلى الحضر، فلما رآها أهل الحضر قالوا هذا عارض ممطرنا مستقبل أوديتنا. وكان أهل البوادي فيها، فألقي أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا".

قال: عتت على خزائنها حتى خرجت من خلال الأبواب. قلت: وقال غيره: خرجت بغير حساب.

والمقصود أن هذا الحديث في رفعه نظر. ثم اختلف فيه على مسلم الملائي، وفيه نوع اضطراب والله أعلم.

وظاهر الآية أنهم رأوا عارضا والمفهوم منه لغة السحاب، كما دل عليه حديث الحارث بن حسان البكري، إن جعلناه مفسرا لهذه القصة.

وأصرح منه في ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" حيث قال: حدثنا أبو بكر الطاهر، حدثنا ابن وهب قال: سمعت ابن جريج حدثنا عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" قالت: "وإذا غيبت السماء تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر. فإذا أمطرت سرى عنه، فعرفت ذلك عائشة فسألته فقال: "لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا}". رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث ابن جريج.

طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، أنبأنا عبد الله بن وهب، أنبأنا عمرو - وهو ابن الحارث - أن أبا النضر حدثه عن سليمان بن يسار، عن عائشة أنها قالت: ما رأيت رسول الله ﷺ مستجمعا ضاحكا قط حتى أرى منه لهواته، إنما كانت يبتسم وقالت: كان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، قالت يا رسول الله: إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف في وجهك الكراهية؟ فقال: "يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب! قد عذب قوم نوح بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا" فهذا الحديث كالصريح في تغاير القصتين كما أشرنا إليه أولا. فعلى هذا تكون القصة المذكورة في سورة الأحقاف خبرا عن قوم عاد الثانية وتكون بقية السياقات في القرآن خبرا عن عاد الأولى، والله أعلم بالصواب.

وهكذا رواه مسلم عن هارون بن معروف، وأخرجه البخاري وأبو داود من حديث ابن وهب.

وقدمنا حج هود عليه السلام عند ذكر حج نوح عليه السلام. وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه ذكر صفة قبر هود عليه السلام في بلاد اليمن. وذكر آخرون أنه بدمشق، وبجامعها مكان في حائطه القبلي يزعم بعض الناس أنه قبر هود عليه السلام. والله أعلم.
قصة صالح عليه السلام نبي ثمود

وهم قبيلة مشهورة، يقال لهم ثمود باسم جدهم ثمود أخي جديس، وهما ابنا عاثر بن ارم بن سام بن نوح.

وكانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر الذي بين الحجاز وتبوك وقد مر به رسول الله ﷺ وهو ذاهب إلى تبوك بمن معه من المسلمين.

وكانوا بعد قوم عاد، وكانوا يعبدون الأصنام كأولئك.

فبعث الله فيهم رجلا منهم وهو عبد الله ورسوله: صالح بن عبيد بن ماسح بن عبيد بن حادر بن ثمود بن عاثر بن ارم بن نوح فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن يخلعوا الأصنام والأنداد ولا يشركوا به شيئا. فآمنت به طائفة منهم، وكفر جمهورهم، ونالوا منه بالمقال والفعال، وهموا بقتله، وقتلوا الناقة التي جعلها الله حجة عليهم، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.

كما قال تعالى في سورة الأعراف: {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم، واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين، قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون، قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون، فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين، فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين، فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين}.

وقال تعالى في سورة هود: {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب، قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب، قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته، فما تزيدونني غير تخسير، ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب، فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب، فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود}.

وقال تعالى في سورة الحجر:{ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين، وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين، فأخذتهم الصيحة مصبحين، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}.

وقال سبحانه وتعالى في سورة سبحان: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}.

وقال تعالى في سورة الشعراء:{كذبت ثمود المرسلين، إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعوني، وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين، أتتركون في ما هاهنا آمنين، في جنات وعيون، وزروع ونخل طلعها هضيم، وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، فاتقوا الله وأطيعوني، ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قالوا إنما أنت من المسحرين، ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين، قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم، فعقروها فأصبحوا نادمين، فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم}.

وقال تعالى في سورة النمل: {ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون، قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون، قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون، وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون، ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون، وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}.

وقال تعالى في سورة حم السجدة: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون، ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}.

وقال تعالى في سورة اقتربت: {كذبت ثمود بالنذر، فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر، أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر، سيعلمون غدا من الكذاب الأشر، إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر، ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر، فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر، فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}.

وقال تعالى: {كذبت ثمود بطغواها، إذ انبعث أشقاها، فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها، فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها، ولا يخاف عقباها}.

وكثيرا ما يقرن الله في كتابه بين ذكر عاد وثمود، كما في سورة براءة وإبراهيم والفرقان، وسورة ص، وسورة ق، والنجم، والفجر.

ويقال أن هاتين الأمتين لا يعرف خبرهما أهل الكتاب، وليس لهما ذكر في كتابهم التوراة. ولكن في القرآن ما يدل على أن موسى أخبر عنهما، كما قال تعالى في سورة إبراهيم: {وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد، ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات} الآية. الظاهر أن هذا من تمام كلام موسى مع قومه، ولكن لما كان هاتان الأمتان من العرب لم يضبطوا خبرهما جيدا، ولا اعتنوا بحفظه، وإن كان خبرهما كان مشهورا في زمان موسى عليه السلام. وقد تكلمنا على هذا كله في التفسير مستقصي. ولله الحمد والمنة.

والمقصود الآن ذكر قصتهم وما كان من أمرهم، وكيف نجى الله نبيه صالحا عليه السلام ومن آمن به، وكيف قطع دابر القوم الذين ظلموا بكفرهم وعتوهم، ومخالفتهم رسولهم عليه السلام.

وقد قدمنا أنهم كانوا عربا، وكانوا بعد عاد ولم يعتبروا بما كان من أمرهم. ولهذا قال لهم نبيهم عليه السلام: {اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم، واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين} أي إنما جعلكم خلفاء من بعدهم لتعتبروا بما كان من أمرهم، وتعملوا بخلاف عملهم. وأباح لكم هذه الأرض تبنون في سهولها القصور، {وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين} أي حاذقين في صنعتها وإتقانها وإحكامها. فقابلوا نعمة الله بالشكر والعمل الصالح، والعبادة له وحده لا شريك له، وإياكم ومخالفته والعدول عن طاعته، فإن عاقبة ذلك وخيمة.

ولهذا وعظهم بقوله: {أتتركون في ما هاهنا آمنين، في جنات وعيون، وزروع ونخل طلعها هضيم} أي متراكم كثير حسن بهي ناضج. {وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين، فاتقوا الله وأطيعوني، ولا تطيعوا أمر المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون}.

وقال لهم أيضا: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} أي هو الذي خلقكم فأنشأكم من الأرض، وجعلكم عمارها، أي أعطاكموها بما فيها من الزروع والثمار، فهو الخالق الرزاق، وهو الذي يستحق العبادة وحده لا ما سواه. {فاستغفروه ثم توبوا إليه} أي أقلعوا عما أنتم فيه وأقبلوا على عبادته، فإنه يقبل منكم ويتجاوز عنكم {إن ربي قريب مجيب}.

{قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا} أي قد كنا نرجو أن يكون عقلك كاملا قبل هذه المقالة، وهي دعاؤك إيانا إلى إفراد العبادة، وترك ما كنا نعبده من الأنداد، والعدول عن دين الآباء والأجداد ولهذا قالوا: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب}.

{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير}.

وهذا تلطف منه لهم في العبارة ولين الجانب، وحسن تأت في الدعوة لهم إلى الخير. أي فما ظنكم إن كان الأمر كما أقول لكم وأدعوكم إليه؟ ما عذركم عند الله؟ وماذا يخلصكم بين يديه وأنتم تطلبون مني أن أترك دعاءكم إلى طاعته؟ وأنا لا يمكنني هذا لأنه واجب علي، ولو تركته لما قدر أحد منكم ولا من غيركم أن يجيرني منه ولا ينصرني. فأنا لا أزال أدعوكم إلى الله وحده لا شريك له، حتى يحكم الله بيني وبينكم.

وقالوا له أيضا: {إنما أنت من المسحرين} أي من المسحورين، يعنون مسحورا لا تدري ما تقول في دعائك إيانا إلى إفراد العبادة لله وحده، وخلع ما سواه من الأنداد. وهذا القول عليه الجمهور، وهو أن المراد بالمسحرين المسحورين. وقيل من المسحرين: أي ممن له سحر - وهو الرئي - كأنهم يقولون إنما أنت بشر له سحر. والأول أظهر لقولهم بعد هذا: {ما أنت إلا بشر مثلنا} وقولهم {فأت بآية إن كنت من الصادقين} سألوا منه أن يأتيهم بخارق يدل على صدق ما جاءهم به. قال: {قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم} كما قال: {قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم} وقال تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها}.

وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوما في ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح فدعاهم إلى الله، وذكرهم وحذرهم ووعظهم وأمرهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة - وأشاروا إلى صخرة هناك - ناقة، من صفتها كيت وكيت وذكروا أوصافا سموها ونعتوها، وتعنتوا فيها، وأن تكون عشراء، طويلة، من صفتها كذا وكذا، فقال لهم النبي صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم، على الوجه الذي طلبتم، أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به؟ قالوا: نعم. فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك.

ثم قام إلى مصلاه فصلى لله عز وجل ما قدر له، ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أن تنفطر عن ناقة عظيمة عشراء، على الوجه المطلوب الذي طلبوا، أو على الصفة التي نعتوا.

فلما عاينوها كذلك، رأوا أمرا عظيما، ومنظرا هائلا، وقدرة باهرة، ودليلا قاطعا، وبرهانا ساطعا، فآمن كثير منهم، واستمر أكثرهم على كفرهم وضلالهم وعنادهم. ولهذا قال: {فظلموا بها} أي جحدوا بها، ولم يتبعوا الحق بسببها، أي أكثرهم، وكان رئيس الذين آمنوا: جندع بن عمرو بن محلاة بن لبيد بن جواس، وكان من رؤسائهم. وهم بقية الأشراف بالإسلام، فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد، والحباب، صاحب أوثانهم، ورباب بن صعر بن جلمس، ودعا جندع ابن عمه شهاب بن خليفة، وكان من أشرافهم، فهم بالإسلام فنهاه أولئك، فمال إليهم فقال في ذلك رجل من المسلمين يقال له مهرش بن غنمة بن الذميل رحمه الله:

وكانت عصبة من آل عمرو *** إلى دين النبي دعوا شهابا

عزيز ثمود كلهم جميعا *** فهم بأن يجيب ولو أجابا

لأصبح صالح فينا عزيزا *** وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا

ولكن الغواة من آل حجر ** *** تولوا بعد رشدهم ذبابا

ولهذا قال لهم صالح عليه السلام: {هذه ناقة الله} أضافها لله سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتعظيم، كقوله بيت الله وعبد الله {لكم آية} أي دليلا على صدق ما جئتكم به {فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب}.

فاتفق الحال على أن تبقى هذه الناقة بين أظهرهم، ترعى حيث شاءت من أرضهم، وترد الماء يوما بعد يوم، وكانت إذا وردت الماء تشرب ماء البئر يومها ذلك، فكانوا يرفعون حاجتهم من الماء في يومهم لغدهم. ويقال أنهم كانوا يشربون من لبنها كفايتهم، ولهذا قال: {لها شرب ولكم شرب يوم معلوم}.

ولهذا قال تعالى: {إنا مرسلو الناقة فتنة لهم} أي اختبار لهم أيؤمنون بها أم يكفرون؟ والله أعلم بما يفعلون. {فارتقبهم} أي انتظر ما يكون من أمرهم {واصطبر} على أذاهم فسيأتيك الخبر على جلية. {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر}.

فلما طال عليهم هذا الحال اجتمع أمرهم واتفق رأيهم على أن يعقروا هذه الناقة، ليستريحوا منها ويتوفر عليهم ماؤهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم. قال الله تعالى: {فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين}.

وكان الذي تولى قتلها منهم رئيسهم: قدار بن سالف بن جندع، وكان أحمر أزرق أصهب. وكان يقال أنه ولد زانية، ولد على فراش سالف، وهو ابن رجل يقال له صيبان. وكان فعله ذلك باتفاق جميعهم، فلهذا نسب الفعل إلى جميعهم كلهم.

وذكر ابن جرير وغيره من علماء المفسرين: أن امرأتين من ثمود اسم إحداهما "صدوقة" ابنة المحيا بن زهير بن المختار. وكانت ذات حسب ومال، وكانت تحت رجل من أسلم ففارقته، فدعت ابن عم لها يقال له "مصرع" بن مهرج بن المحيا، وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة. واسم الأخرى "عنيزة" بنت غنيم بن مجلز، وتكنى أم عثمان وكانت عجوزا كافرة، لها بنات من زوجها ذؤاب بن عمرو أحد الرؤساء، فعرضت بناتها الأربع على قدار بن سالف، إن هو عقر الناقة فله أي بناتها شاء، فانتدب هذان الشابان لعقرها وسعوا في قومهم بذلك، فاستجاب لهم سبعة آخرون فصاروا تسعة. وهم المذكورون في قوله تعالى: {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون}. وسعوا في بقية القبيلة وحسنوا لهم عقرها، فأجابوهم إلى ذلك وطاوعوهم في ذلك. فانطلقوا يرصدون الناقة، فلما صدرت من وردها كمن لها "مصرع" فرماها بسهم فانتظم عظم ساقها، وجاء النساء يذمرن القبيلة في قتلها، وحسرن عن وجوههن ترغيبا لهم في ذلك فابتدرهم قدار بن سالف، فشد عليها بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ساقطة إلى الأرض. ورغت رغاة واحدة عظيمة تحذر ولدها، ثم طعن في لبتها فنحرها، وانطلق سقبها - وهو فصيلها - فصعد جبلا منيعا ورغا ثلاثا.

وروى عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع الحسن أنه قال: يارب أين أمي؟ ثم دخل في صخرة فغاب فيها. ويقال: بل اتبعوه فعقروه أيضا.

قال الله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر}. وقال تعالى: {إذ انبعث أشقاها، فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها} أي احذروها {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها، ولا يخاف عقباها}.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، حدثنا هشام - أبو عروة - عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال: خطب رسول الله ﷺ فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: "إذ انبعث أشقاها: انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه، مثل أبي زمعة".

أخرجاه من حديث هشام به. عارم: أي شهم. عزيز، أي: رئيس. منيع، أي: مطاع في قومه.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني يزيد بن محمد بن خثيم، عن محمد بن كعب، عن محمد بن خثيم بن يزيد، عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله ﷺ لعلي: "ألا أحدثك بأشقى الناس؟ قال: بلى. قال: رجلان، أحدهما أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا - يعني قرنه - حتى تبتل منه هذه - يعني لحيته". رواه ابن أبي حاتم.

وقال تعالى: {فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين} فجمعوا في كلامهم هذا بين كفر بليغ من وجوه:

منها: أنهم خالفوا الله ورسوله في ارتكابهم النهي الأكيد في عقر الناقة التي جعلها الله لهم آية.

ومنها: أنهم استعجلوا وقوع العذاب بهم فاستحقوه من وجهين: أحدهما الشرط عليهم في قوله: {ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب} وفي آية{عظيم} وفي الأخرى{أليم} والكل حق. والثاني استعجالهم على ذلك.

ومنها: أنهم كذبوا الرسول الذي قد قام الدليل القاطع على نبوته وصدقه، وهم يعلمون ذلك علما جازما، ولكن حملهم الكفر والضلال والعناد على استبعاد الحق ووقوع العذاب بهم. قال الله تعالى: {فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب}.

وذكروا أنهم لما عقروا الناقة كان أول من سطا عليها قدار بن سالف، لعنه الله، فعرقبها فسقطت إلى الأرض، ثم ابتدروها بأسيافهم يقطعونها فلما عاين ذلك سقبها - وهو ولدها - شرد عنهم فعلا أعلى الجبل هناك، ورغا ثلاث مرات.

فلهذا قال لهم صالح: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام} أي غير يومهم ذلك، فلم يصدقوه أيضا في هذا الوعد الأكيد، بل لما أمسوا هموا بقتله وأرادوا - فيما يزعمون - أن يلحقوه بالناقة. {قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله} أي لنكبسنه في داره مع أهله فلنقتلنه، ثم نجحدن قتله ولننكرن ذلك إن طالبنا أولياؤه بدمه، ولهذا قالوا: {ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون}.

قال الله تعالى: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون، وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون}.

وذلك أن الله تعالى أرسل على أولئك النفر الذين قصدوا قتل صالح حجارة رضختهم فأهلكهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم، وأصبحت ثمود يوم الخميس - وهو اليوم الأول من أيام النظرة - ووجوهم مصفرة، كما أنذرهم صالح عليه السلام. فلما أمسوا نادوا بأجمعهم: ألا قد مضى يوم من الأجل. ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة - ووجوههم محمرة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضى يومان من الأجل، ثم أصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع - وهو يوم السبت - ووجوهم مسودة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضى الأجل.

فلما كان صبيحة يوم الأحد تحنطوا وتأهبوا وقعدوا ينتظرون ماذا يحل بهم من العذاب والنكال والنقمة، لا يدرون كيف يفعل بهم؟ ولا من أي جهة يأتيهم العذاب.

فلما أشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس، وسكنت الحركات، وخشعت الأصوات، وحقت الحقائق فأصبحوا في دارهم جاثمين، جثثا لا أرواح فيها ولا حراك بها. قالوا ولم يبق منهم أحد إلا جارية كانت مقعدة واسمها "كلبة" بنت السلق - ويقال لها الذريعة - وكانت شديدة الكفر والعداوة لصالح عليه السلام، فلما رأت العذاب أطلقت رجلاها، فقامت تسعى كأسرع شيء، فأتت حيا من العرب فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها واستسقتهم ماء، فلما شربت ماتت.

قال الله تعالى: {كأن لم يغنوا فيها} أي لم يقيموا فيها في سعة ورزق وغناء، {ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود} أي نادى عليهم لسان القدر بهذا.

قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما مر رسول الله ﷺ بالحجر قال: "لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح، فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها. وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله بها من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله" فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه".

وهذا الحديث على شرط مسلم وليس هو في شيء من الكتب الستة. والله تعالى أعلم.

وقد قال عبد الرزاق أيضا: قال معمر: أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي ﷺ مر بقبر أبي رغال، فقال: "أتدرون من هذا؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله فمنعه حرم الله عذاب الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ها هنا، ودفن معه غصن من ذهب. فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن". قال عبد الرزاق: قال معمر: قال الزهري: أبو رغال أبو ثقيف.. هذا مرسل من هذا الوجه.

وقد جاء من وجه آخر متصلا كما ذكره محمد بن إسحاق في السيرة عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبي بجير، قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله ﷺ حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر، فقال: "إن هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه معه. فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن" وهكذا رواه أبو داود من طريق محمد بن إسحاق به. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمه الله: هذا حديث حسن عزيز.

قلت: تفرد به بجير بن أبي بجير هذا، ولا يعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو عنه سوى إسماعيل بن أمية. قال شيخنا: فيحتمل أنه وهم في رفعه، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو من زاملتيه. والله أعلم.

قلت: لكن في المرسل الذي قبله وفي حديث جابر أيضا شاهد له. والله أعلم.

وقوله تعالى: {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} إخبار عن صالح عليه السلام، أنه خاطب قومه بعد هلاكهم، وقد أخذ في الذهاب عن محلتهم إلى غيرها قائلا لهم: {يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم} أي: جهدت في هدايتكم بكل ما أمكنني، وحرصت على ذلك بقولي وفعلي ونيتي.

{ولكن لا تحبون الناصحين}. أي: لم تكن سجاياكم تقبل الحق ولا تريده، فلهذا صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب الأليم، المستمر بكم المتصل إلى الأبد، وليس لي فيكم حيلة، ولا لي بالدفع عنكم يدان. والذي وجب علي من أداء الرسالة والنصح لكم قد فعلته، وبذلته لكم، ولكن الله يفعل ما يريد.

وهكذا خاطب النبي ﷺ أهل قليب بدر بعد ثلاث ليال: وقف عليهم وقد ركب راحلته وأمر بالرحيل من آخر الليل فقال: "يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا". وقال لهم فيما قال: " بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم"، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم". فقال له عمر: يا رسول الله تخاطب أقواما قد جيفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون".

ويقال أن صالحا عليه السلام انتقل إلى حرم الله فأقام به حتى مات.

قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما مر النبي ﷺ بوادي عسفان حين حج قال: "يا أبا بكر أي واد هذا؟" قال وادي عسفان. قال: "لقد مر به هود وصالح عليهما السلام على بكرات خطمها الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق".

إسناد حسن. وقد تقدم في قصة نوح عليه السلام من رواية الطبراني، وفيه نوح وهود وإبراهيم.
ذكر مرور النبي ﷺ بواد الحجر من أرض ثمود عام تبوك


قصص الانبياء لان كثير ج1...4...ذكر إدريس عليه السلام

ذكر إدريس عليه السلام

قال الله تعالى: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقا نبيا. ورفعناه مكانا عليا} فإدريس عليه السلام قد أثنى الله عليه ووصفه بالنبوة والصديقية، وهو خنوخ هذا. وهو في عمود نسب رسول الله ﷺ على ما ذكره غير واحد من علماء النسب.

وكان أول بني آدم أعطي النبوة بعد آدم وشيث عليهما السلام.

وذكر ابن اسحاق أنه أول من خط بالقلم، وقد أدرك من حياة آدم ثلاثمائة سنة وثماني سنين. وقد قال طائفة من الناس أنه المشار إليه في حديث معاوية بن الحكم السلمي لما سأل رسول الله ﷺ عن الخط بالرمل فقال: " إنه كان نبي يخط به فمن وافق خطه فذاك".

ويزعم كثير من علماء التفسير والأحكام أنه أول من تكلم في ذلك، ويسمونه هرمس الهرامسة، ويكذبون عليه أشياء كثيرة كما كذبوا على غيره من الأنبياء والعلماء والحكماء والأولياء.

وقوله تعالى: {ورفعناه مكانا عليا} هو كما ثبت في "الصحيحين" في حديث الإسراء: أن رسول الله ﷺ مر به وهو في السماء الرابعة. وقد روى ابن جرير عن يونس عن عبد الأعلى، عن ابن وهب، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن شمر بن عطية، عن هلال بن يساف قال: سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر فقال له: ما قول الله تعالى لإدريس {ورفعناه مكانا عليا}؟ فقال كعب: أما إدريس فإن الله أوحى إليه: أني أرفع لك كل يوم مثل جميع عمل بني آدم - لعله من أهل زمانه - فأحب أن يزداد عملا، فأتاه خليل له من الملائكة، فقال "له": إن الله أوحى إلي كذا وكذا فكلم ملك الموت حتى ازداد عملا، فحمله بين جناحيه ثم صعد به إلى السماء، فلما كان في السماء الرابعة تلقاه ملك الموت منحدرا، فكلم ملك الموت في الذي كلمه فيه إدريس، فقال: وأين إدريس؟ قال هو ذا على ظهري، فقال ملك الموت: يا للعجب! بعثت وقيل لي اقبض روح إدريس في السماء الرابعة، فجعلت أقول: كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض؟! فقبض روحه هناك. فذلك قول الله عز وجل {ورفعناه مكانا عليا}.

ورواه ابن أبي حاتم عند تفسيرها. وعنده فقال لذلك الملك سل لي ملك الموت كم بقي من عمري؟ فسأله وهو معه: كم بقي من عمره؟ فقال: لا أدري حتى أنظر، فنظر فقال إنك لتسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين، فنظر الملك إلى تحت جناحه إلى إدريس فإذا هو قد قبض وهو لا يشعر. وهذا من الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة.

وقول ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {ورفعناه مكانا عليا} قال: إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى. إن أراد أنه لم يمت إلى الآن ففي هذا نظر، وإن أراد أنه رفع حيا إلى السماء ثم قبض هناك. فلا ينافي ما تقدم عن كعب الأحبار. والله أعلم.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: {ورفعناه مكانا عليا} : رفع إلى السماء السادسة فمات بها، وهكذا قال الضحاك. والحديث المتفق عليه من أنه في السماء الرابعة أصح، وهو قول مجاهد وغير واحد. وقال الحسن البصري: {ورفعناه مكانا عليا} قال: إلى الجنة، وقال قائلون رفع في حياة أبيه يرد بن مهلاييل والله أعلم. وقد زعم بعضهم أن إدريس لم يكن قبل نوح بل في زمان بني إسرائيل.

قال البخاري: ويذكر عن ابن مسعود وابن عباس أن إلياس هو إدريس، واستأنسوا في ذلك بما جاء في حديث الزهري عن أنس في الإسراء: أنه لما مر به عليه السلام قال له مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ولم يقل كما قال آدم وإبراهيم: مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قالوا: فلو كان في عمود نسبه لقال له كما قالا له. وهذا لا يدل ولابد، قد لا يكون الراوي حفظه جيدا، أو لعله قاله على سبيل الهضم والتواضع، ولم ينتصب له في مقام الأبوة كما انتصب لآدم أبي البشر، وإبراهيم الذي هو خليل الرحمن، وأكبر أولي العزم بعد محمد صلوات الله عليهم أجمعين.

كلها خاطئة فيها تحريف كبير في أحد محرفها