قال عبد الله بن المبارك: حدثنا رشدين بن سعد، عن حيي، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو، قال: إن الصيام، والقرآن ليشفعان للعبد، يقول الصيام: رب منعته الطعام والشراب، والشهوات بالنهار، فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه.
وروى نعيم بن حماد، عن إبراهيم بن الحكم بن أبان، عن أبيه، عن أبي قلابة، قال: إن ابن أخي يتعاطى الشراب، فمرض، فبعث إلي ليلا أن ألحق بي فأتيته، فرأيت أسودين قد دنيا منه، فقلت: إنا لله هلك ابن أخي، فاطلع أبيضان من الكوة التي في البيت، فقال أحدهما لصاحبه: أنزل إليه، فلما نزل تنحى عنه الأسودان، فشم فاه، فقال: ما أرى فيها ذكرا. ثم شم بطنه، فقال: ما أرى فيها صياما، ثم شم رجليه فقال: ما أرى فيهما صلاة فقال له صاحبه: إنا لله وإنا إليه راجعون. رجل من أمة محمد ليس له من الخير شيء. ويحك، عد فانظر، فعاد فلم يجد شيئا، فنزل الآخر، فشم، فلم يجد شيئا، ثم عاد فإذا في طرفي لسانه تكبيرة في سبيل الله، قالها ابتغاء وجه الله بأنطاكية، فقبضوا روحه، فشموا في البيت رائحة المسك وشهد الناس جنازته، حديث غريب جدا.
قال العلامة أبو محمد القرطبي في التذكرة: وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم، بن محمد الختلي في كتاب الديباج له، حدثنا أحمد بن أبي الحارث، حدثنا عبد المجيد بن أبي داود، عن معمر بن راشد، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله: "إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه أخرج كتابا من تحت العرش: إن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين قال: فيخرج من أهل النار مثل أهل الجنة، أو قال: مثلي أهل الجنة، قال: ظني أنه قال: مثل أهل الجنة، مكتوب بين أعينهم: عتقاء الله".
وروى الترمذي، عن أنس، مرفوعا: يقول الله تعالى: أخرجوا من النار من ذكرني يوما، أو خافني في مقام، وقال: حسن غريب.
وله عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: "إن رجلين ممن دخل النار اشتد صياحهما، فقال الرب تعالى: أخرجوهما، فلما أخرجا قال لهما: لأي شيء اشتد صياحكما؟ فقالا: فعلنا ذلك لترحمنا، قال: إن رحمتي لكما أن تنطلقا، فتلقيا أنفسكما حيث كنتما من النار، فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها عليه بردا وسلاما، ويقوم الآخر، فلا يلقي نفسه، فيقول الرب تعالى: "ما منعك أن تلقي بنفسك، كما ألقى صاحبك؟ فيقول: رب إني لأرجو أن لا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني منها فيقول الرب: لك رجاؤك، فيدخلان الجنة جميعا برحمة الله". وفي إسناده ضعف لحال رشدين بن سعد، عن ابن أبي نعم وهما ضعيفان، ولكن يغتفر رواية هذا في هذا الباب من الترغيب والترهيب. والله أعلم.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا رشدين بن سعد، حدثنا أبو هانىء الخولاني، عن عمرو بن مالك الخشني: أن فضالة بن عبود، وعبادة الصامت حدثاه: أن رسول الله ﷺ قال: "إذا كان يوم القيامة، وفرغ الله من قضاء الخلق فيبقى رجلان، فيؤمر بهما إلى النار، فيلتفت أحدهما، فيقول الجبار: ردوه، فيردونه، فيقول له: لم التفت؟ فيقول: كنت أرجو أن تدخلني الجنة، فيؤمر به إلى الجنة، فيقول: لقد أعطاني ربي حتى لو أني أطعمت أهل الجنة ما نقص ذلك مما عندي شيئا، وكان رسول الله ﷺ إذا ذكره يرى السرور في وجهه".
فصل أصحاب الأعراف
قال الله تعالى: "و بينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون، وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين".
قال ابن عباس وغيره: الأعراف سور بين الجنة والنار: وقال العتبي: عن صلة بن زفر، عن حذيفة، قال: "أصحاب الأعراف، قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة". "وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين". فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم ربك، فقال: قوموا فادخلوا الجنة، فإني قد غفرت لكم.
ورواه البيهقي: من وجه آخر، عن الشعبي، عن حذيفة، مرفوعا وفيه نظر. وقال سفيان الثوري: عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: "أصحاب الأعراف رجال تستوي حسناتهم وسيئاتهم، فيذهب بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة- تربته ورس وزعفران، وحافتاه، قصب من ذهب، مكلل باللؤلؤ فيغتسلون منه، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء، ثم يغتسلون، فيزدادون بياضا، ثم يقال لهم: تمنوا ما شئتم، فيتمنون ما شاءوا، فيقال لهم: لكم ما تمنيتم وأضعافه سبعين مرة، فأولئك مساكين الجنة".
وقد وردت أحاديث فيها غرابة، في شأن أصحاب الأعراف، وصفاتهم، تركناها لضعفها.
ذكر أول من يخرج من النار فيدخل الجنة
ثبت في صحيح مسلم: من حديث الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره: أن أناسا قالوا لرسول الله: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله ﷺ: "هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة، فيها منافقوها، فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ر بكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا، حتى يأتينا ربنا. فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ر بكم، فيقولون: أنت ر بنا، فيتبعونه، ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من نجتاز، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم سلم. وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله، ومنهم المجازي، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار يأمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا، ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يقول لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار، يعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، فيخرجون من النار، قد امتحشوا، فيصب عليهم من ماء الحياة، فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، وهو آخر أهل النار دخولا الجنة، فيقول: أي رب، اصرف وجهي عن النار، فإنه قد مسني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فيدعو الله ما شاء أن يدعوه، ثم يقول الله: هل عسيت إن أعطيت ذلك، أن تسألني غيره؟ فيقول: لا أسألك غيره، ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء، فيصرف وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة، ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت ثم يقول: أي رب: قدمني إلى باب الجنة، فيقول الله: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك، لا تسألني شيئا غير الذي أعطيت؟ ويلك يا ابن آدم: ما أغدرك؟ فيقول: أي رب، ويدعو الله، حتى يقول: فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك، ويعطي ربه ما شاء من عهود ومواثيق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة، انفهقت له الجنة، فرأى ما فيها من الخير والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب: أدخلني الجنة، فيقول الله تعالى: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك، أن لا تسأل غير ما أعطيت؟ ويحك يا ابن آدم؟ ما أغدرك؟ فيقول: أي رب، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال يدعو الله، حتى يضحك الله منه، ثم يقول له: ادخل الجنة، فيدخلها فيقول الله: تمنه، فيسأل الله ويتمنى. حتى إن الله ليذكره، من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله، لك ذلك ومثله معه". قال عطاء بن يزيد: وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة، لا يرد عليه شيئا من حديثه، حتى إذا قال أبو هريرة: إن الله قال لذلك الرجل: ومثله معه. قال أبو سعيد: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة، فقال أبو هريرة: ما حفظت إلا قوله: لك ذلك مثله معه، فقال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله ﷺ قول: لك ذلك وعشرة أمثاله، قال أبو هريرة: وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولا".
هذا لفظ مسلم، من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، ثم أورد الحديث من رواية عطاء بن يسار، وغيره: عن أبي سعيد، فساقه بطوله نحوه، وفيه: "إنه يعطى ذلك وعشرة أمثاله" وفي بعض سياقاته: "أنه ينتقل من النار إلى باب الجنة في ثلاث مراحل، كل مرحلة يجلس تحت شجرة كل واحدة هي أحسن من أختها التي قبلها".
وكذلك رواه مسلم أيضا: من حديث ابن مسعود وفيه: "وعشرة أمثاله" كما حفظه أبو سعيد، والله سبحانه أعظم وأكرم.
وكذا رواه البخاري: عن ابن مسعود، وفيه: "وعشرة أمثاله" فقال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله، قال: قال النبي ﷺ: "إني لأعلم آخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا الجنة، رجل يخرج من النار حبوا، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنه، فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع، فيقول: يا رب وجدتها ملأى، فيقول: اذهب فادخل الجنة، فإن لك مثل الدنيا، وعشرة أمثالها، أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا- فيقول: تسخربي- أو تضحك مني- وأنت الملك؟ فلقد رأيت رسول الله ﷺ يضحك حتى بدت نواجذه وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة".
روى الدارقطني في كتابه: الرواة عن مالك، والخطيب البغدادي، من طريق غريبة، عن عبد الملك بن الحكم، حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: "إن آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، يقال له جهينة، فيقول أهل الجنة. عند جهينة الخبر اليقين، سلوه: هل بقي من الخلائق أحد"؟ وهذا الحديث لا تصح نسبته إلى الإمام مالك، لجهالة رواته عنه، ولو كان محفوظا عنه من حديثه لكان في كتبه المشهورة عنه، كالموطإ وغيره مما رواه عنه الثقات. والعجيب أن أبا عبد الله القرطبي ذكره في التذكرة، وجزم به، فقال: قال ابن عمر: قال رسول الله ﷺ: "آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة، يقال له جهينة، فيقول أهل الجنة: وعند جهينة الخبر اليقين.
وكذلك ذكره السهيلي، ولم يضعفه، وحكى عن السهيل قول آخر: أن اسمه هناد فالله أعلم إلى هنا.
وقال مسلم: حدثنا محمد بن مسعود بن نمير، حدثنا الأعمش، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله ﷺ: "إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها، رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال له: عملت يوم كذا، كذا وكذا. وعملت يوم كذا، كذا وكذا. فيقول: نعم لا يستطيع أن ينكر، وهومشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: إن لك مكان كل سيئة حسنة. فيقول: رب: عملت أشياء لا أرها هاهنا، فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك، حتى بدت نواجذه ".
وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن سعد بن يحيى المزكي، حدثنا أبو فروة يزيد بن محمد بن سنان الرهاوي، حدثني أبي، عن أبيه، حدثني أبو يحيى الكلاعي، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله ﷺ: "إن آخر رجل يدخل الجنة، رجل يتقلب على ظهر الصراط ظهرا لبطن، كالغلام يضربه أبوه، وهو يفر منه، يعجز عنه عمله أن يسعى، فيقول: يا رب: بلغ بي الجنة، ونجني من النار، فيوحي الله إليه: عبدي إن أنا نجيتك من النار، وأدخلتك الجنة، أتعترف لي بذنوبك، وخطاياك؟ فيقول العبد: نعم يا رب: وعزتك إن نجيتني من النار لأعترف لك بذنوبي وخطاياي، فيجوز الجسر، ويقول العبد فيما بينه وبين نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي، ليردني إلى النار، فيوحي الله إليه: عبدي: اعترف بذنوبك، وخطاياك، أغفرها لك، وأدخلك الجنة، فيقول العبد: لا وعزتك وجلالك ما أذنبت ذنبا قط، ولا أخطأت خطيئة قط، فيوحي الله إليه، عبدي: إن لي عليك بينة، فيلتفت العبد يمينا وشمالا فلا يرى أحدا: فيقول: يا رب: أرني بينتك، فيستنطق الله جلده بالمحقرات، فإذا رأى ذلك العبد، يقول: يا رب: عندي وعزتك العظائم، فيوحي الله إليه: عبدي: أنا أعرف بها منك، اعترف لي بها أغفرها لك، وأدخلك الجنة، فيعترف العبد بذنوبه، فيدخله الجنة، ثم ضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه، فقال: هذا أدنى أهل الجنة منزلة، فكيف بالذي فوقه؟".
وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا سلام:- يعني ابن مسكين- عن طلال، عن أنس بن مالك، عن النبي ﷺ قال: "إن عبدا في جهنم لينادي ألف سنة: يا حنان، يا منان. قال: فيقول الله لجبريل: اذهب فائتني بعبدي هذا، فينطلق جبريل، فيجد أهل النار مكبين يبكون فيرجع إلى ربه فيخبره، فيقول: ائتني به، فإنه في مكان كذا وكذا، فيجيء به، فيوقفه على ربه، فيقول له: يا عبدي، كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول: يا رب، شر مكان، وشر مقيل، فيقول: ردوا عبدي، فيقول: ما كنت أرجو إذا أخرجتني منها، أن تردني فيها، فيقول الله تعالى: دعوا عبدي" . تفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان بن سلمة، أخبرنا ثابت، وأبو عمران الجوني، عن أنس بن مالك، أن رسول الله ﷺ قال: "يخرج أربعة من النار- قال أبو عمران: أربعة، وقال ثابت: رجلان- فيعرضون على الله، ثم يؤمر بهم- أو بهما- إلى النار، فيلتفت أحدهم، فيقول: أي رب قد كنت أرجو إذا أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها، فينجيه الله منها" . هكذا رواه مسلم: من حديث حماد بن سلمة: به.
وقال عبد الله بن المبارك: حدثني رشيد بن سعيد، حدثني ابن أنعم عن أبي عثمان، أنه حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال: "ن رجلين ممن دخل النار، يشتد صياحهم، فيقول الرب جل جلاله: أخرجوهما، فيخرجان، فيقول الله لهما: لأي شيء اشتد صياحكما؟ فيقولان: فعلنا ذلك لترحمنا، فيقول عز وجل: رحمتي لكما بأن تنطلقا إليها، فيلقي أحدهما نفسه فيها، فيجعلها عليه الله بردا وسلاما، أما الآخر، فلا يلقي نفسه، فيقول له الرب: ما منعك أن تلقي نفسك كما فعل صاحبك؟ فيقول: رب: إني أرجو أن لا تعيدني فيها بعدما أخرجتني منها: فيقول الرب: لك رجاؤك، فيدخلان جميعا الجنة، برحمة الله عز وجل".
وذكر بلال بن سعد في خطبته: "إن الله تعالى إذا أمرهما بالرجوع إلى النار، ينطلق أحدهما في أغلاله، وسلاسله، حتى يقتحمها، ويتلكأ الاخر، فيقول الله للأول: ما حملك على ما صنعت؟ فيقول: إني خررت من وبال معصيتك في العذاب الأليم، فلم أكن أتعرض لسخطك ثانيا، وأما الآخر، فيقول: حسن ظني بك، إذ أخرجتني منها أن لا تعيدني إليها، فيرحمهما الله، ويدخلهما الجنة".
فصل إذا خرج أهل المعاصي منها فلم يبق فيها غير الكافرين فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون
كما قال تعالى: "فاليوم لا يخرجون منها". ولا محيد لهم عنها، بل هم خالدون فيها أبدا، وهم الذين حبسهم القرآن، وحكم عليهم بالخلود، كما قال تعالى: "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا "حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا".
وقال تعالى: "إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا".
وقال تعالى: "إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا".
فهذه ثلاث آيات، فيهن الحكم عليهم بالخلود أبدا، ليس لهن رابعة مثلهن في ذلك، فأما قوله تعالى: "قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم".
وقوله تعالى: "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد".
فلقد تكلم ابن جرير وغيره من المفسرين على هذه الآية بكلام طويل بسطه، وجاءت آثار عن الصحابة غريبة، ووردت أخبار عجيبة، وللكلام على ذلك موضع آخر، ليس هذا موطنه، والله أعلم وأحكم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدثنا ابن المبارك عمرو بن محمد بن زيد، حدثني أبي، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا صار أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، جيء بالموت حتى يوقف بين الجنة والنار، ثم يذبح، ثم ينادي منادي: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت فازداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، وازداد أهل النار حزنا على حزنهم" .
وهكذا رواه البخاري: عن معاذ بن أسد بن عبد الله بن المبارك، به، مثله، وقال أحمد، حدثنا حسان بن الربيع الموصلي، حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: "يؤتى بالموت كبشا أملح فيوقف بين الجنة والنار، فيقول: يا أهل الجنة: فيشرئبون وينظرون، ويقول: يا أهل النار، فيشرئبون، وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيذبح ويقال: خلود لا موت". وهذا إسناد غريب من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا يزيد وابن نمير، قالا: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: "يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف على الصراط، فيقال: يا أهل الجنة: فيطلعون خائفون، وجلين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، فيقال: هل تعرفون هذا. فيقولون: نعم ربنا، هذا الموت، ثم يقال: يا أهل النار: فيطلعون فرحين، مستبشرين أن يخرجوا من مكانهم الذي هم فيه، فيقال: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيؤمر به فيذبح على الصراط، ثم يقال للفريقين كليهما: خلود فيما تجدون، لا موت أبدا".
إسناده جيد قوي، على شرط الصحيح، ولم يخرجه أحد من هذا الوجه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا بشر بن آدم، حدثنا نافع بن خالد الطاحي، حدثنا نوح بن قيس الطاحي، عن أخيه خالد بن قيس، عن قتادة، عن أنس، عن النبي ﷺ قال: "يؤتى بالموت يوم القيامة، فيوقف بين الجنة والنار، فيذبح، فيقال: يا أهل الجنة: خلود ولا موت، ويا أهل النار: خلود ولا موت". ثم قال البزار: لا نعلمه يروى عن أنس، إلا من هذا الوجه.
كتاب صفة أهل الجنة وما فيها من النعيم نسأل الله عز وجل أن يدخلنا برحمته
ذكر ما ورد في عدد أبوابها واتساعها وعظمة جناتها
وقال الله تعالى: "وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين".
وقال تعالى: "جنات عدن مفتحة لهم الأبواب".
وقال: "والملائكة يدخلون عليهم من كل باب و سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار".
وقد سلف فيما تقدم من الأحاديث: أن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الجنة، وجدوه مغلقا، فيشفعون إلى الله عز وجل ليفتح لهم.
وقد ذكر في حديث الصور: "أنهم يأتون آدم، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فكل يحيد عن ذلك- كما تقدم في الصحاح- ثم يأتون رسول الله ﷺ، فيذهب، فيقعقع حلقة باب الجنة، فيقول الخازن: من؟ فيقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك، فيدخل فيشفع عند الله في دخول المؤمنون دار الكرامة، فيشفعه، فيكون هو أول من يدخل الجنة من الأنبياء، وأمته أول من يدخلها من الأمم".
وثبت في الصحيح: "أنا أول شافع في الجنة، وأول من يقعقع". وسيأتي في الحديث أيضا: "مفتاح الجنة، لا إله إلا الله".
وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأهل السنن؟ من رواية عقبة بن عامر، وغيره: عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله ﷺ: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع بصره إلى السماء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله: فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا بشر بن الفضل، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله ﷺ: "إن بالجنة بابا يدعى الريان، يدعى إليه الصائمون يوم القيامة، يقال: أين الصائمون؟ فإذا دخلوه أغلق، فلم يدخل منه غيرهم". قال بشر: فلقيت أبا حازم، فسألته، فحدثني به، غير أني لحديث عبد الرحمن أحفظ وقال الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن رسول الله ﷺ قال: "في الجنة ثمانية أبواب، باب منها يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون" وقد رواه البخاري: عن سعيد بن أبي مريم، به.
ورواه أيضا مسلم: من حديث سليمان بن بلال، عن أبي حازم سلمة بن دينار، عن سهل، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: "من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله، دعي من أبواب الجنة، وللجنة ثمانية أبواب، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام، دعي من باب الريان" فقال أبو بكر: والله يا رسول الله ما على أحد من ضرورة دعي، من أيها دعي، فهل يدعى منها كلها أحد، يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم" . وأخرجاه في الصحيحين: من حديث الزهري: به.
ولهما من حديث سفيان: عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ مثله: وقال عبد الله ابن الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد بن نمير: حدثنا إسحاق بن سليمان: حدثنا جرير بن عثمان: عن شرحبيل بن شفعة، قال: لقيني عتبة بن عبد الله السلمي، فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ما من مسلم يتوفى له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية، من أيها شاء". وروراه ابن ماجه: عن أبي نمير أيضا.
وروى البيهقي: من حديث الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو، عن أبي المثنى المليكي، أنه سمع عتبة بن عبد الله السلمي يروي عن النبي ﷺ، في حديث ذكره في قتال المخلص والمذنب والمنافق قال فيه: "وللجنة ثمانية أبواب، وإن السيف محاء للذنوب، و يمحو النفاق". الحديث بطوله. وتقدم الحديث المتفق عليه من حديث أبي زرعة، عن أبي هريرة، في حديث الشفاعة، قال فيه: "فيقول الله: يا محمد: أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر، والذي نفس محمد بيده: إن بين المصراعين من مصاريع الجنة،- أو ما بين عضادتي الباب- كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى".
وفي صحيح مسلم: عن خالد بن عمير العدوي، أن عتبة بن غزوان خطبهم فقال: بعد حمد الله والثناء عليه: "أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرم، وولت جريا، وإنما بقي منها صبابة كصبابة الإناء، يصبها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا فناء لها، فانتقلوا بخيرمن عملكم، فلقد ذكر لنا: أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة، مسيرة أربعين سنة، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ الزحام".
وفي المسند: من حديث حماد بن سلمة، عن الحريري، عن حكيم، عن معاوية، عن أبيه، أن رسول الله ﷺ قال: "أنتم توفون سبعين أمة، آخرها، وأكرمها على الله، وما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما، وليأتين عليه يوم وإنه لكظيط".
ورواه البيهقي: من طريق علي بن عاصم، عن سعيد الحريري بن معاوية، وقال: "مسيرة سبع سنين".
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا الفضل بن الصباح أبو العباس، حدثنا معن بن عيسى: حدثنا خالد بن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: قال رسول الله ﷺ: "باب أمتي الذي تدخل منه الجنة، عرضه مسيرة الراكب المجود ثلاثا، ثم إنهم ليضغطون عليه، حتى تكاد مناكبهم تزول".
وقد رواه الترمذي من حديث خالد هذا. قال: وسألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه.
وقال خالد بن أبي بكر: حدثنا كشذ، عن سالم، قال البيهقي: وحديث عتبة بن غزوان "أربعين سنة" أصح.
وقد روى عبد بن حميد في مسنده: عن الحسن بن موسى الأشيب، عن ابن لهيعة، عن دراج عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، أن رسول الله ﷺ قال: "إن للنار سبعة أبواب، ما منها باب إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما". فإنه حديث مشهور، وحمله بعض العلماء على بعد ما بين كل باب وباب، لا أنه بعد المصراعين، لئلا يتعارض هذا وما تقدم، والله أعلم.
وقد ادعى القرطبي: أن للجنة ثلاثة عشر بابا، ولكن لم يقم على ذلك دليلا قويا أكثر من أن قال: ومما يدل على أنها أكثر من ثمانية، حديث عمر: "من توضأ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وفي آخره قال: فتح له من أبواب الجنة ثمانية أبواب، يدخل من أيها شاء". أخرجه الترمذي وغيره.
وروى الآجري في كتاب النصيحة، عن أبي هريرة، مرفوعا: "إن في الجنة بابا يقال له باب الضحى، ينادي مناد: أين الذين كانوا يداومون على صلاة الضحى؟ هذا بابكم فادخلوا".
أسماء أبواب الجنة
قال: وقال الحليمي: أبواب الجنة منها باب محمد ﷺ، وهو باب التوبة، وباب الصلاة، وباب الصوم، وباب الزكاة، وباب الصدقة، و باب الحج، و باب العمرة، و باب الجهاد، و باب الصلة.
وزاد غيره: باب الكاظمين، وباب الراضين، والباب الأيمن الذي يدخل منه الذين لا حساب عليهم.
وجعل القرطبي الباب الذي عرضه مسيرة ثلاثة أيام للراكب المجود- كما وقع عند الترمذي- بابا ثالث عشرة، والله تعالى أعلم.
مفتاح الجنة شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والأعمال الصالحة هي أسنان هذا المفتاح
وقال الحسن بن عرفة: حدثنا إسماعيل بن عباس، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي جبير، عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل، قال: قال لي رسول الله ﷺ: "مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله".
وفي صحيح البخاري، قال: قيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى، ولكن إن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك. يعني لا بد وأن يكون مع التوحيد أعمال صالحة، من فعل الطاعات، وترك المحرمات.
ذكر تعداد محال الجنة وارتفاعها واتساعها
قال الله تعالى: "ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان فبأي آلأء ربكما تكذبان فيهما عينان تجريان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما من كل فاكهة زوجان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان كأنهن الياقوت والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان هل جزاء الإحسان إلا الإحسان فبأي آلاء ربكما تكذبان ومن دونهما جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان مدهامتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما عينان نضاختان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهما فاكهة ونخل ورمان فبأي آلاء ربكما تكذبان فيهن خيرات حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان حور مقصورات في الخيام فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان فبأي آلاء ربكما تكذبان متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان فبأي آلاء ربكما تكذبان تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام"..
وثبت في الصحيحين: من حديث عبد العزيز بن عبد الصمد، عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه، أن رسول الله ﷺ قال: "جنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل، إلا رداء الكبرياء، على وجهه، في جنة عدن".
وروى البيهقي: من حديث مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن ثابت، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبيه، أن رسول الله ﷺ قال: "جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين". وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن حميد، عن أنس بن مالك، أن أم حارثة أتت رسول الله ﷺ وقد هلك حارثة يوم بدر، أصابه غرب معهم، فقالت: يا رسول الله: قد علمت موقع حارثة من قلبي، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإلا فسوف ترى ما أصنع فقال لها: "أجنة واححة هي، أم جنان كثيرة؟ وإنه في الفردوس الأعلى".
قليل العمل في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وأقل شيء في الجنة خير من الدنيا وما فيها
وقال: "غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، وقاب قوس أحدكم، وموضع قده خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء الجنة اطلعت على أهل السموات والأرض لأضاءه ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحا، ولنصيفها- يعني الخمار- خير من الدنيا وما فيها".
وفي رواية عن قتادة أنه قال: "الفردوس ربوة الجنة، وأوسطها، وأفضلها".
وقد رواه الطبراني: من حديث سعيد بن بشر، عن قتادة، عن الحسن بن سمرة، مرفوعا.
وقال الله تعالى: "في جنة عالية".
وقال تعالى: "فأولئك لهم الدرجات العلى".
وقال تعالى: "وسارعوا إلى مغفرة من ر بكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين".
وقال تعالى: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا فليح، عن هلال بن علي بن عبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: "من آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، فإن حقا على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها".
قالوا: يا رسول الله: أفلا تخبر الناس؟ قال: إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه وسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر- أو تنفجر- أنهار الجنة"- شك أبو عامر.
ورواه البخاري، عن إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن فليح، عن أبيه، بمعناه.
الفردوس أعلى درجات الجنة والصلاة والصيام يقتضيان مغفرة الله عز وجل
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد الرحمن، حدثنا أبو همام الدلال، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن معاذ بن جبل، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من صلى هؤلاء الصلوات الخمس، وصام رمضان- لا أدري ذكر الزكاة أم لا؟- كان حقا على الله أن يغفر له، هاجر، أو قعد حيث ولدته أمه، قلت: يا رسول الله: ألا أخرج فأؤذن الناس؟ فقال: لا. ذر الناس يعملون، فإن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين، مثل ما بين السماء والأرض، وأعلى درجة منها الفردوس، وعليها يكون العرش، وهي أوسط شيء في الجنة، ومنها تفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس".
وهكذا رواه الترمذي: عن قتيبة، وأحمد بن عبده الدراوردي، عن زيد بن أسلم به.
وأخرجه ابن ماجه، عن سويد، عن حفص بن ميسرة، عن زيد مختصرا.
من الفردوس تتفجر أنهار الجنة
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عبادة بن الصامت، عن النبي ﷺ قال: "الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام".
وقال ابن عفان: "كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأر بعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس" .
ورواه الترمذي: عن أحمد بن منيع، عن زيد بن هارون، عن همام بن يحيى به.
قلت: ولا تكون هذه الصفة إلا في المقبب، فإن أعلى القبة هو وسطها، والله تعالى أعلم.
درجات الجنة متفاوتة وليس يعلم مقدار تفاوتها إلا الله رب العالمين
وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا شريك، عن محمد بن جحادة، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين مسيرة خمسمائة عام".
ورواه الترمذي: عن عباس العنبري، عن يزيد بن هارون، وعنده: "ما بين كل درجتين مائة عام". وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زهير، عن حسن، عن أبي لهيعة، عن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، أن رسول الله ﷺ قال: "الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن وسعتهم". ورواه الترمذي: عن قتيبة، عن ابن لهيعة، ورواه أحمد أيضا.
ذكر ما يكون لأدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم من اتساع الملك العظيم
قال الله تعالى: "وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا".
وقد تقدم في الحديث المتفق عليه من رواية منصور: عن إبراهيم، عن علقمة بن مسعود، عن النبي ﷺ في ذكر آخر من يدخل الجنة من أمته يقول له: "أما ترضى أن يكون لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها"؟ وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا اسرائيل، عن ثوير هو ابن أبي فاختة، عن ابن عمر، رفعه إلى النبي ﷺ قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلة، الذي ينظر إلى جناته، ونعيمه، وخدمه، وسرده، من مسيرة ألف سنة، وإن أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية".
ثم تلا هذه الآية: "وجوة يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة".
وقال أيضا: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبد الملك بن أبجر، عن ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ﷺ: "إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملك ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه، ينظر أزواجه، وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله تعالى كل يوم مرتين".
ورواه الترمذي عن عبد، عن شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير، به قال: وقد روى من غير وجه، عن إسرائيل، عن يزيد، عن عبد الله بن عمر مرفوعا قال: ورواه الثوري عن ثوير، عن مجاهد، عن ابن عمر، قوله، قال: ورواه عبد الله بن أبجر، عن ثوير، عن ابن عمر، موقوفا كذا قال: وقد تقدمت رواية أحمد لهذا الطريق مرفوعا.
وروى مسلم، والطبراني: وهذا لفظه من حديث سفيان بن عيينة: حدثنا مطرف بن طريف، وعبد الملك بن سعيد بن أبجر، عن الشعبي، عن المغيرة بن شعبة،- رفعه ابن أبجر، ولم يرفعه مطرف- قال: قال موسى: يا رب: أخبرني عن أدنى أهل الجنة منزلة، قال: نعم، هو رجل يجيء بعدما نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب، وكيف أدخلها وقد نزل الناس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقول له: أما ترضى أن يكون لك مثل ما كان لملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب، فيقول، لك مثله ومثله:- وعقد سفيان أصابعه الخمس- فيقول: رضيت يا رب. قال: فيقول موسى: يا رب: فأخبرني عن أعلى أهل الجنة منزلة، قال: نعم. أولئك الذين أردت، وسأخبرك عنهم، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر". مصداق ذلك في كتاب الله تعالى: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون".
وثبت في الصحيحين: واللفظ لمسلم: من حديث سفيان. بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: "قال الله عز وجل: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". مصداق ذلك في كتاب الله: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون".
وقال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ابن وهب، حدثني أبو صخر، أن أبا حازم حدثه، قال: سمعت سهل بن سعد يقول: شهدت من رسول الله ﷺ مجلسا، وصف فيه الجنة، حتى انتهى، ثم قال في آخر حديثه: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر". ثم قرأ هذه الآية: "تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون".
ورواه مسلم: عن هارون بن معروف.
ذكر غرف الجنة وارتفاعها واتساعها وعظمها نسأل الله من فضله أن يمنحنا إياها من فيض فضله
قال الله تعالى: "لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد".
وقال الله تعالى: "فأوتثك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون".
وثبت في الصحيحين: واللفظ من حديث مالك: عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عنأبي سعيد الخدري، أن رسول الله ﷺ قال: "إن أهل الجنة ليتراءون داخل الغرف من فوقهم كما يتراءون- أو ترون- الكوكب الغائر في الأفق، من المشرق، أو المغرب، لتفاضل ما بينهم"؟ قالوا: يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: لا، والذي نفسي بيده إنها منازل الأنبياء، ومنازل رجال آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين" .
وفي الصحيح أيضا: من حديث أبي حازم، عن سهل بن سعيد، أن رسول الله ﷺ قال: "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تتراءون- أو ترون- الكوكب الدري الغائر في أفق السماء".
قال أحمد: حدثنا فزارة، أخبرني فليح، عن هلال- يعني ابن عطاء-، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ: قال: "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تتراءون- أو ترون- الكوكب الدري الغائر في الأفق، من تفاضل الدرجات. قالوا: يا رسول الله: أولئك النبيون. قال: بلى والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين" ، حدثنا الحافظ أيضا هذا على شرط البخاري.
منازل المتحابين بجلال الله في الجنة
وقال أحمد: حدثنا علي بن عباس، حدثنا محمد بن مطرف، أخبرنا أبو حازم، عن أبي سعيد الخدري، قال رسول الله ﷺ: "إن المتحابين في الله لترى غرفهم في الجنة كالكوكب الطالع، الشرقي، أو الغربي، فيقال: من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله".
وفي حديث عطية: عن أبي سعيد، مرفوعا: "إن أهل عليين ليراهم من سواهم كما يرون الكوكب في أفق السماء، وإن أبا بكر وعمر منهم".
ذكر أعلى منزلة في الجنة وهي الوسيلة فيها مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثبت في صحيح البخاري: عن علي بن عباس، عن شعيب بن أبي حمزة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله ﷺ أنه قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة، والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته: حلت له الشفاعة يوم القيامة".
وفي صحيح مسلم: عن محمد بن سلمة، عن ابن وهب، عن حيوة، وسعيد بن أبي أيوب، عن كعب بن علقمة، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه سمع النبي ﷺ يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله تعالى لي الوسيلة فإن من سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة".
الوسيلة أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن ليث، عن كعب، عن أبي هريرة، أن رسول الله ﷺ قال: "إذا صليتم علي، فسلوا الله لي الوسيلة، قالوا: يا رسول الله: وما الوسيلة؟ قال: أعلى درجة في الجنة، لا ينالها إلا رجل واحد، وأرجو أن أكون أنا هو".
وقال أحمد: حدثنا موسى بن داود، حدثنا ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، سمعت أبا سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: "الوسيلة درجة عند الله، ليس فوقها درجة، فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة".
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن علي الأبار، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني، حدثنا موسى بن أعين، عن ابن أبي ذؤيب، عن محمد بن عمر بن عطاء، عن بن عباس، قال: قال رسول الله ﷺ: ""سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا، إلا كنت له شفيعا- أو شهيدا- يوم القيامة. قال الطبراني: لم يروه عن ابن أبي ذؤيب إلا موسى بن أعين.
ذكر بنيان قصور الجنة مم هو
قال أحمد: حدثنا أبو النضر، وأبو كامل، قالا: حدثنا زهير، حدثنا سعد أبو مجاهد الطائي، حدثنا أبو مدله المدني مولى أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، أنه سمع أبا هريرة يقول: قلنا: يا رسول الله: إذا رأيناك رقت قلوبنا، وكنا من أهل الآخرة، وإذا فارقناك، أعجبتنا الدنيا، وشمنا النساء والأولاد، فقال: لو تكونوا أو قال: لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي أنتم عليها عندي، لصافحتكم الملائكة بأكفهم، ولزارتكم في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون لكي يغفر لكم، قال قلنا: يا رسول الله، حدثنا عن الجنة: ما بناؤها؟ قال: لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، وملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم، ولا يبأس، ويخلد، ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه".
ورواه الترمذي: من حديث عبد الله بن نمير، عن سعدان التيمي- وكان ثقة- عن سعد أبي مجاهد الطائي،- وكان ثقة- وقال: حسن، ووقع توثيق هذين الرجلين في رواية ابن نمير.
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن المثنى البزار، حدثنا محمد بن زياد الكلبي، حدثنا نفيس بن حنين، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: "خلق الله جنة عدن بيده، لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زبرجدة خضراء، ملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ، وحشيشها الزعفران، ثم قال لها: انطقي: فقالت: "قد أفلح المؤمنون". فقال الله: "وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل". ثم قرأ رسول الله ﷺ: "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون".
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا القاسم بن المغيرة الجوهري، حدثنا عفان بن سعيد المقري، حدثنا علي بن صالح، عن أبي ربيعة، عن الحسن، عن ابن عمر، قال: سئل رسول الله ﷺ عن الجنة فقال: "من يدخل الجنة يحيى ولا يمت، وينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه قيل: يا رسول الله: كيف بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها مسك أذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران".
وقال البزار: حدثنا بشر بن آدم، حدثنا يونس بن عبيد الله العمري، حدثنا عيسى بن الفضل، حدثنا الحريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ قال: "خلق الله الجنة لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك، ثم قال لها: تكلمي فقالت: "قد أفلح المومنون".. فقالت الملائكة: "طوباك منزلة الملوك".
وقد رواه البيهقي: وغيره: فقال الله: "طوباك منزلة الملوك".
وقد رواه وهب، عن الحريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، موقوفا..
وفي حديث داود بن أبي هند، عن أنس، مرفوعا "إن الله بنى الفردوس بيده، وحظرها على كل مشرك وكل مدمن خمر، سكير".
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا معاوية بن هشام، حدثنا علي بن عاصم، عن عمر بن ربيعة، عن الحسن، عن ابن عمر، قال: قيل: يارسول الله كيف بناء الجنة. فقال: "لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، ملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران".
الملاط: هو الطين الذي يجعل بين الأحجار في البناء، ليجتمع بعضها إلى بعض.
وقال الطبراني: حدثنا أحمد بن خليد، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان بن عمر، عن مهاجر بن ميمون، عن فاطمة رضي الله عنها، أنها قالت للنبي ﷺ: أين أمنا خديجة؟ قال: "في بيت من قصب، لا لغو فيه ولا نصب، بين مريم، وآسية امرأة فرعون". قالت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا من القصب المنظوم بالدر واللؤلؤ والياقوت".
قال الطبراني: لا يروى عن فاطمة إلا بهذا الإسناد. تفرد به صفوان بن عمرو.
وقلت: وهو حديث غريب. وله شاهد في الصحيح: "إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب".
قال بعض العلماء: إنما كان بيتها من قصب اللؤلؤ، لأنها حازت قصب السبق في تصديق رسول الله ﷺ، حين بعثه الله عز وجل، كما يدل عليه حديث أول البعثة، فإنها أول من آمن، حيث قالت- وقد أخبرها خبر ما رأى- وقال: "لقد خشيت على عقلي" قالت: "كلا: والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر".
وأما ذكر مريم وآسية في هذا الحديث، ففيه إشعار أن رسول الله ﷺ يتزوج بهما في الدار الآخرة، وقد حاول بعضهم أن يأخذ ذلك من القرآن في سورة: "يا أيها النبي لم تحرم". في قوله: "ثيبات وأبكارا". ثم ذكرت آسية ومريم في آخر السورة. يروى مثل هذا عن البراء بن عازب، أو عن غيره من السلف، والله أعلم.
فضل قيام الليل وإطعام الطعام وكثرة الصيام
وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا ابن المنذر الطريفي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله ﷺ: "إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقيل لرسول الله: لمن هي؟ قال: لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام".
ورواه الترمذي: عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، عن عبد الرحمن بن إسحاق، وقال: غريب، لا نعرفه إلا من حديثه.
وروى الطبراني: من حديث الوليد بن مسلم، حدثنا معاوية بن سلام، عن يزيد بن سلام، حدثني أبو سلام، حدثني أبو موسى الأشعري، حدثني أبو مالك الأشعري، أن رسول الله ﷺ قال: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام".
وروى الطبراني أيضا: من حديث ابن وهب، حدثني حيي، عن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها".
قال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: "لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، و بات قائما والناس نيام".
قال الحافظ الضياء: هذا عندي إسناد حسن، وذكر أبي مالك فيه مما يدل على صحته، لأنه قد رواه وإسناد حديثه أيضا.
وقد ورد في بعض الأحاديث أن القصر يكون من لؤلؤة واحدة، أبوابه ومصاريعه وسقفه.
وفي حديث آخر: "سقوف الجنة نور، تتلالأ كالبرق اللامع، لولا أن الله يثبت أبصارهم لأوشك أن يخطفها".
وقال البيهقي: أخبرنا أبو الخبر بن بشران، أخبرنا أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بابن السماك، حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن منصور، حدثنا أبي، حدثنا عبد الرحمن بن عبد المؤمن، سمعت محمد بن واسع يذكر عن جابر بن عبد الله قال: قال لنا رسول الله ﷺ: "ألا أحدثكم بغرف الجنة؟ قال: قلنا: بلى يا رسول الله: بأبينا أنت وأمنا. قال: إن في الجنة غرفا من أصناف الجوهر كله، يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، فيها من النعيم واللذات والشفوف مالا عين رأت ولا أذن سمعت. قال: قلنا يا رسول الله: ولمن هذه الغرف؟ قال: لمن أفشى السلام وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام". قال: قلنا: يا رسول الله: ومن يطيق ذلك. قال: أمتي تطيق ذلك، وسأخبركم عن ذلك، من لقي أخاه فسلم عليه، ورد عليه فقد أفشى السلام، ومن أطعم عياله، وأهله، حتى يشبعهم، فقد أطعم الطعام، ومن صام رمضان، ومن كل شهر ثلاثة أيام، فقد أدام الصيام، ومن صلى العشاء الأخيرة وصلى الغداة في جماعة، فقد صلى بالليل والناس نيام، اليهود والنصارى والمجوس".
ثم قال البيهقي: وهذا الإسناد غير قوي، إلا أنه بالإسنادين يقوى بعضه ببعض، والله أعلم.
قال: وروي بإسناد آخر عن جابر.
ثم أورده من طريق علي بن حرب، عن حفص بن عمرو، عن عمرو بن قيس الملائي، عن عطاء، عن ابن عباس، مرفوعا بنحوه.
وروى البيهقي: من حديث حسن بن فرقد، عن الحسن البصري، عن عمران بن حصين، وأبي، قالا: سئل رسول الله ﷺ عن هذه الآية: "ومساكن طيبة في جنات عدن". فقال: "قصر من لؤلؤ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء، في كل بيت سرير، على كل سريرسبعون فراشا، من كل لون، على كل فراش زوجة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة، على كل مائدة سبعون لونا من الطعام، في كل بيت سبعون وصيفة، ويعطي المؤمن ما يأتي على ذلك كله أجمع".
قلت: وهذا الحديث غريب فإن هذا الجسر ضعيف جدا، وإذا كان الجسر ضعيفا فلا يملك الاتصال..
وقال عبد الله بن وهب: أخبرنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ: "إنه ليحاز الرجل الواحد بالقصر من اللؤلؤة الواحدة، في ذلك القصر سبعون غرفة، في كل غرفة زوجة من الحور العين، في كل غرفة سبعون بابا، تدخل عليه من كل باب رائحة من رائحة الجنة سوى الرائحة التي تدخل عليه من الباب الآخر". ثم قرأ: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون".
قلت: وقد رواه الإمام أحمد، عن حسن، عن ابن لهيعة. حدثني حيي بن عبد الله بن شريح المعافري، فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال: فقال أبو موسى الأشعري، لمن هي يا رسول الله. والله أعلم.
وذكر القرطبي: من طريق أبي هدية بن إبراهيم بن هدية، عن أنس بن مالك، مرفوعا: "إن في الجنة غرفا ليس فيها معاليق من فوقها، ولا عمد من تحتها، قيل يا رسول الله: وكيف يدخلها أهلها؟ قال: يدخلونها أشباه الطير. قيل: يا رسول الله: لمن هي؟ قال: لأهل الأسقام، والأوجاع، والبلوى".
ذكر الخيام في الجنة